هناك بعض الدول العربية تحمل من الأهمية الشيء الكبير فيما يخص مستقبل واستقرار الوطن العربي والمنطقة بأسرها، فاستقرار هذه الدول ووحدتها يعني أن بقية دول الإقليم سوف تستقر بشكل طبيعي وذلك لأهميتها التاريخية والاستراتيجية. لعل العراق من أبرز الدول العربية التي يمكن أن يطالها هذا الوصف، فدولة بحجم العراق وموقعها الجغرافي وقيمتها التاريخية والحضارية لابد أن تكون دولة مختلفة، ومن هنا يكون الحديث عن العراق هو الحديث عن كل العرب.
لانريد هنا أن نستعرض فكرة المؤامرة التي تستهدف الدول العربية وعلى رأسها العراق، وإنما نحاول أن نسلط الضوء على المؤامرات الداخلية التي يقوم بها بعض العراقيين لتقويض أركان الدولة المدنية والاستعاضة عنها بمشاريع فساد كاملة الأوصاف. كلنا يتذكر قبل أعوام كيف استطاع وزير المواصلات العراقي أن يجبر طائرة وهي في الجو على أن تعود مجدداً إلى مطار بغداد لأنها غادرت دون أن تأخذ على متنها «المحروس ابن الوزير»، وكيف تتجرأ شركة طيران أن تغادر طائراتها المطار دون انتظار الابن المدلل للوزير حتى ولو كان قد تأخر عن موعد الإقلاع بساعات؟!
هذه الحادثة المشحونة بالفساد والعهر السياسي تنسحب على الكثير من المسؤولين والساسة ورؤساء التيارات والأحزاب السياسية والدينية في العراق. هنالك اليوم عشرات البرلمانيين الفاسدين وعشرات الآلآف من السياسيين الأكثر فساداً عبر العالم، كما يوجد مئات المعممين السارقين والناهبين لثروات الشعب العراقي باسم الدين، وهناك عشرات الأحزاب الفاسدة التي تصل لمواقع القرار داخل السلطة السياسية من خلال تسلق ظهور الشعب ورقاب المخلصين من أبناء بلاد الرافدين. هذا هو العراق.
لن تنتهي أزمة «العراق الكبير» حين يقوده حفنة من اللصوص الذين يسمُّون أنفسهم زوراً بالسياسيين، فهذا البلد اليوم يحتاج إلى تأهيل داخلي قبل الالتفات إلى كل وجوه المؤامرات الخارجية. كل من زار العراق خلال العقد الأخير يلمس هذا الوضع عن كثب، فلا بنية تحتية ولا شوارع ولا كهرباء ولا ماء ولا طرقات ولا خدمات ولا أي نوع من مظاهر الدولة المدنية تشمّ رائحتها في العراق، فالفقر والفوضى وإلهاء الناس بالسياسة وبعض المظاهر الدينية عن المطالبة بتحسين وضع هذه الدولة المنكوبة هو السلوك الذي يتصدر المشهد العام في العراق، مما أدى إلى أن يصبح هذا البلد من أسوأ البلدان العربية على مستوى خارطة الفساد العالمي.
فبغداد تشهد سباقاً محموماً من طرف بعض أبنائه لجمع أكبر قدر من رؤوس الأموال الحرام، فالمعمم ينهب والسياسي يسرق والمسؤول يلهث وراء مصالحه وزعيم العشيرة يقاتل من أجل أن يوظف عشيرته في مؤسسات الدولة، أمَّا الإنسان العراقي البسيط فإنه ما زال يفتش في المزابل عن كسرة خبز يسد بها رمق جوعه، على الرغم أنه يسكن فوق أرض تحتها من البترول والثروات ما لا تملكه كل الدول الأفريقية مجتمعة والكثير من الدول الآسيوية المتطورة، وذلك بسبب تيارات وأحزاب وساسة يعشقون الفساد عشقاً، ولهذا لن تقوم للعراق قائمة بوجود هذا الكم الهائل من الفساد والمفسدين، وستظل بغداد الجريحة وحدها تحارب هؤلاء «الجرابيع» من الداخل والإرهاب وكل المؤامرات من الخارج، فهل ستصمد بغداد طويلاً أم ستنهار كما انهارت في يوم من الأيام لذات السبب؟ عموماً، سيظل رهان انتصار العراق مرتبطاً بشعب العراق وصموده ومدى قدرته على اقتلاع كل جذور الفساد، وها هي الأيام بيننا.