«إنها صدمة مدوية، تفكك الاتحاد بمنتهى البساطة، هو ما على المحك، الآن حان وقت ابتكار أوروبا أخرى». تجسد التصريحات السابقة لرئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس ما أحدثه البريطانيون من زلزال في أوروبا والعالم، ومن صدمة مدوية لن تظهر آثارها إلا بعد فترة، بعدما تسببوا في أكبر ضربة لوحدة أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، ووجهوا صفعة من العيار الثقيل لقادتهم ونخبهم وعلى رأسهم ديفيد كاميرون وجوردون براون وفيليب هاموند، بتصويتهم لصالح الانسحاب من عضوية الاتحاد الأوروبي، حتى وإن لم تتجاوز نسبة مؤيدي الانفصال عن طالبي الوحدة الـ 4 %، ما يعكس انقساماً كبيراً في المجتمع البريطاني، حيث صوت كبار السن لصالح الانفصال، بينما
أيد الشباب الوحدة، في وقت تحمست فيه أسكتلندا وأيرلندا الشمالية ولندن للبقاء ضمن التكتل الأوروبي، الأمر الذي رفضه قاطنو أطراف المدن والأرياف، الذين لم يعيشوا رخاء الأطراف الثلاثة الأخيرة، ولم يشعروا بجدوى الوحدة.
وقد كان يحق لـ 46.5 مليون بريطاني المشاركة في الاستفتاء، صوت منهم نحو 33.5 مليوناً بنسبة مشاركــة بلغت نحو 72.2 %، حيث أيد نحو 17.5 مليون بنسبة 51.9 % الخروج من الاتحاد الأوروبي، فيما تمسك نحو 16 مليوناً بنسبة 48.1 % بالوحدة ضمن التكتل الذي انضمت إليه بلادهم قبل 43 عاماً.
وربما يتفق كثيرون على أن ما فعله البريطانيون بتصويتهم لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي يعد قفزة مجهولة في الهواء، لن تظهر تبعاتها في الوقت الحالي، وعلى البريطانيين والأوروبيين الانتظار حتى تتضح الصورة كاملة، وتظهر آثار نتائج الاستفتاء التاريخي، بينما لن ينسَ الأوروبيون بوجه خاص والعالم بوجه عام يوم 23 يونيو 2016، حيث اعتبره الكثير من الأوروبيين يوماً أسود في تاريخ القارة العجوز.
وينذر انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بتفكك القوتين، بعد أن لوحت رئيسة وزراء أسكتلندا نيكولا ستورجون بأن «إجراء استفتاء جديد على الاستقلال عن باقي بريطانيا أمر مرجح»، لأنه بحسب قولها «من غير المقبول ديمقراطياً أن تخرج أسكتلندا من الاتحاد الأوروبي ضد رغبتها»، وذلك بتأييد ثلثي الناخبين في أسكتلندا للوحدة وللبقاء ضمن التكتل. وقد ورفض الناخبون في أسكتلندا الاستقلال عن المملكة المتحدة بنسبة 55 % في استفتاء عام 2014. وعلى غرار أسكتلندا، صوت الناخبون في أيرلندا الشمالية بنسبة 55.7 % مع البقاء في الاتحاد الاوروبي، بينما يطالب الحزب الجمهوري لأيرلندا الشمالية الـ «شين فين» باستفتاء على توحيد أيرلندا، ما يطرح معضلة جديدة أمام القادة البريطانيين في احتمالية انفصال أيرلندا الشمالية.
في الوقت ذاته، تشهد الأحزاب المعادية للهجرة وللاتحاد الأوروبي صعوداً في جميع أنحاء القارة الأمر الذي يشكل ضغطا لم يسبق له مثيل على تيارات اليسار ويمين الوسط التي تحكم أوروبا منذ عقود، وقد دفع الانفصال الأخير لبريطانيا، زعماء شعبويون، وقادة أحزاب يمينية متطرفة، للمطالبة بإجراء استفتاءات للخروج من الاتحاد الأوروبي خاصة في فرنسا وهولندا، حيث دعت زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي مارين لوبان إلى إجراء استفتاء مشابه في فرنسا، واستبدلت الصورة التي كانت تضعها على حسابها على «تويتر» بصورة العلم البريطاني وكتبت قائلة «النصر للحرية»، فيما قال زعيم اليمين المتطرف في هولندا خيرت فيلدرز الذي طالب أيضا بإجراء استفتاء «نريد أن نكون نحن من يتولى إدارة بلدنا ومالنا وحدودنا وسياسة الهجرة عندنا».
وتشير التوقعات إلى أن الانفصال عن أوروبا ربما يحرم بريطانيا من تجارة السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي، ما يثير تساؤلات حول إجبار الحكومة البريطانية على إبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع دول العالم، فضلاً عن تراجع قيمة الجنيه الإسترليني أمام الدولار واليورو الذي أيضاً من المتوقع أن يفقد جزءاً من قيمته أمام العملة الأمريكية، وتلك أحد الأضرار التي قد تقع على الاتحاد الأوروبي الذي بطبيعة الحال سيتضرر من الانفصال، لأنه فقد دولة عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وإمبراطورية عسكرية متطورة، ومن الناحية الاقتصادية سيخسر الاتحاد سدس ناتجه الاقتصادي دفعة واحدة، إضافة إلى خسارته دعم أكبر دولة تقف معه في استراتيجية اقتصاد السوق الحر، خاصة أن التكتل الأوروبي يعاني من أزمة دين في منطقة اليورو وعملية نزوح جماعية غير مسبوقة خاصة من سوريا والعراق وأفغانستان، فضلاً عن مواجهة عنيفة مع روسيا بسبب أزمتها التاريخية مع أوكرانيا.
* وقفة:
اختار البريطانيون الانفصال بعدما فقدوا رخاء التكتل الأوروبي في وقت يتطلع فيه الخليجيون للاتحاد من أجل تطوير منظومتهم التي لن تتوقف عند ناتج محلي إجمالي بقيمة 1.6 تريليون دولار، إضافة إلى الدرع الصاروخي المشترك، والإنتربول الخليجي، وقوات «درع الجزيرة»، والقيادة العسكرية المشتركة، والقوة البحرية، فلا مانع من اتحاد على المستوى الاقتصادي، بعملة موحدة، يليه اتحاد في مجالات أخرى، ليست السياسة آخرها!!