التناقضات السياسية طبيعية بحكم تنوع البشر، لكنها تعكس إخفاقاً سياسياً كبيراً ولا يمكن أن يملك من يتبناها مشروعاً سياسياً، فهي استحالة.
لنضرب نموذج جمعية راديكالية شارك تيارها بفاعلية في الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني، ثم رفضت الجمعية التعديلات الدستورية الأولى، وطالبت بما أسمته دستور 1973، وقاطعت الانتخابات التشريعية، لكنها شاركت في الانتخابات البلدية رغم مراجعتها التعديلات الدستورية!
لاحقاً اعترفت بالدستور، وقررت المشاركة في الانتخابات التشريعية رغم أن الدستور لم يتغير. وفي أزمة 2011 رفضت الدستور، وقررت مقاطعة الانتخابات في 2014.
هذا التناقض المستمر، وتبدل المواقف لا يعكس وجود قناعات حقيقية بمشروع سياسي طموح أو مشروع لبناء دولة مدنية كما كانت تطالب بها بعض الجماعات الراديكالية. أولى مطالب الدولة المدنية هو العمل على تكوين هوية وطنية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق مع العمل على نشر قيم وصور نمطية عنصرية مثل «المجنسين، والمرتزقة، والسكان الأصليين»، مثلما حدث طوال 15 عاماً ماضية.
معالجة الانحراف الذي تسببت به الجماعات الراديكالية في هويتنا الوطنية ضرورة عاجلة لأننا في حالة انقسام للهويات في البحرين، ما يعني تشكيل هويات فرعية أقوى تتحول سريعاً إلى تغلغل في مؤسسات الدولة، ثم تصبح الهويات ممأسسة وهنا الخطوة لأن الهوية إذا تحولت إلى مؤسسة تصبح المؤسسة هي الهوية وليست الدولة.
حتى نفهم تلك الخطورة، فإذا كنا في السابق أو مازلنا نتحدث عن أن هذه الوزارة أو المؤسسة الحكومية يسيطر عليها السنة، وتلك يسيطر عليها الشيعة، فإننا سنتحول مستقبلاً إلى وزارات يسيطر عليها أهالي تلك المنطقة، ومؤسسات يسيطر عليها المواطنون من أصول ذلك البلد البعيد. وكلتا الحالتين غير صحيحة ولا تقوم على أسس المواطنة.
هكذا هو الوضع المؤلم والمقيت الذي يمكن أن تصل إليه الظروف مستقبلاً إذا تم السكوت عن الهويات الفرعية أكثر. والحاجة هنا لا للقضاء على تلك الهويات الصغيرة، بل احتواؤها واستيعابها في هوية أكبر مبنية على المواطنة التي نص عليها الدستور.
والإصلاح السياسي لا يمكن أن يتطور أبداً دون هوية وطنية، لأن التطور في الإصلاح مع هويات فرعية يعني تركيز نظرة كل جماعة أو القوى المتعددة إلى بحث الاستفادة من فرص الإصلاح ومؤسساته والسيطرة عليه، لتكون المصلحة الوطنية هي مصلحة الجمعية أو المذهب أو الأصل. لاحقاً تكون جميع المؤسسات الدستورية مؤسسات هشة، لأنها لا تعمل لتحقيق مصالح الجميع الذين تأسست من أجلهم، بل تعمل من أجل مصالح فئوية. هنا لا تتطور الديمقراطية، بل تراوح مكانها ويمكن أن تتراجع في أي وقت.