كنت أسير في أحد الشوارع القديمة بالقضيبية، عندما ناداني شخص واستوقفني، ليسلم علي بحراره ويشكرني على ما قدمت له، لم أستطع تذكره لأول وهلة، وأخذ يحدثني بإنجليزيته الهندية «أنا سابو... ألا تذكرني سيدي، ثم سرعان ما تذكرته وجرت بيننا محادثة قصيرة، ثم أثنيت عليه وتمنيت له التوفيق، ومضى كل منا إلى طريقه.
كنت قد توليت إدارة الامتياز التجاري لإحدى الشركات الدولية العاملة في استرجاع ضريبة القيمة المضافة على الخدمات للمسافرين من أجل الأعمال للدول الأوروبية، وأتبع بها أيضاً إدارة أول بطاقة خصومات تجارية في الخليج. كان عمل الشركة يتطلب جمع الأرصدة من الشركات البحرينية، وترتيبها وتصنيفها ثم إرسالها للشركة الأم، لتقوم بعملية استعادة الضريبة، وهي تستغرق وقتاً طويلاً يتجاوز ستة أشهر في كثير من الأحيان. كان عصب العمل هو التعامل مع هذا الكم المتنوع من المستندات المالية تصنيفاً وترتيباً وحفظاً وترميزاً، وفقدان هذه المستندات يترتب عليه التزامات كثيره مالية وأدبية محرجة.
كانت توصيتي قبل أن أغادر المؤسسة التي بدأت تشق طريقها وتزدحم لديها المستندات أن يتولى «سابو» هذا المنصب، بينما كان يشغل منصب مراسل وخادم في المكتب. لازلت أذكر الصدمة على وجه الرئيس التنفيذي للمجموعة وهو بريطاني ورئيس مجلس إدارتها في آخر اجتماع لي. ورغم معارضة الرئيس التنفيذي لهذا التعيين إلا أنه يبدو أن الفكره قد راقت لرئيس مجلس الإدارة وتم تنفيذ التوصية.
كان سابو موظفاً في قاع السلم الوظيفي ويتقاضى راتباً لا يزيد عن 60 ديناراً بحرينياً، وينام في المكتب نتيجة عدم قدرته على استئجار مكان للنوم، ويستخدم دراجة هوائية لتوصيل المراسلات. كنت ألاحظ عليه قدرته على تنظيم أعماله البسيطة، وخطه الجميل الأنيق الذي أبهرني، وفي أحد الأيام طلبت منه في استراحة الغداء أن يحضر لي وله غداء وجلسنا، كنا لوحدنا، نتناول الوجبة، وكانت برياني لحم، تعرفت عليه عن كثب، وعرفت أنه خريج دبلوم تجارة من الهند، وهي شهادة ليست بذات الشيء الكبير هناك وأنه عمل سكرتيراً وكاتباً هناك قبل أن يحضر إلى البحرين، ولم يكن أمامه غير هذه الفرصة ليعمل كمراسل وكما نقول بالعامية «صبي مكتب»، وهو يعمل فيها منذ أكثر من ثلاث سنوات.
اتصلت بمن بقي من الفريق الذي يعمل في الشركة لأسألهم عن «سابو»، وكان ردهم أنه الآن «مستر سابو»، وهو محل ثقة الإدارة وتجاوز ذلك إلى المركز الرئيس للامتياز التجاري في السويد وبريطانيا، وهو المخول بالتواصل معهم وأنه يمسك عصب العمل بدقة وعناية فائقة، مزعجة طبعاً لفريق المبيعات، وهو من يقوم بمراجعة المدراء الماليين في الشركات لترتيب الأمور وتوضيحها والإجابة على أي استفسار إجرائي دقيق.
قصة «سابو» وقبلها قصص أبو ريان وعباس في المقال السابق، كلها قصص واقعية لأناس كان عملهم وتخصصهم بعيداً تماماً عما برعوا فيه بعد ذلك، لأن العنصر الأساس لاختيارهم كان قائماً على القدرات والمهارات الشخصية والجانب النوعي في شخوصهم المناسبة للأعمال التي أوكلت إليهم وليست شهاداتهم وخبراتهم المهنية، وهي بكل تأكيد مهمة لكنها يجب ألا تلعب الدور الرئيس في عملية الاختيار.
كانت الشخوص الثلاثة التي ذكرتها تتمتع بأغلب المواصفات الشخصية التالية:
* الطموح وبذل الجهد لتحقيقه.
* حب التعلم وبذل الجهد اللازم له – وهي مشكلة لدى قطاع واسع الثقة بالنفس.
* اغتنام الفرصة.
* المرونة والتكيف مع المحيط.
* القدرة على إدارة الأولويات.
* التخطيط والتنظيم.
* القدرة على التواصل البناء مع الزملاء والمديرين والعملاء.
* القدرة على حل المشاكل «التفكير بطريقة مبتكرة ومتميزة».
* مهارات التواصل والتأثير في الآخرين.
* مهارات تحليلية وبحثية.
* مهارات قيادية.
* سلوك إيجابي.
* التمتع بمهارات إبداعية.
* فصل الحياة الشخصية عن العمل.
ولكن ماذا عن اختيار الرئيس التنفيذي وكبار المدراء، هل تنطبق عليهم هذه المواصفات أيضاً؟ سنتناول ذلك في مقال آخر إن شاء المولى. رمضان كريم وفرصة للتفكير والتأمل.
* مطور أعمال وقدرات بشرية