قبل نحو 119 عاماً ابتكر أحد أبرز مؤسسي علم الجغرافيا السياسية الألماني فريدريك راتزل قوانينه السبعة لتطور الدولة، وينص أحدها على الآتي: «إن نمو الدولة يظل مستمراً حتى تصل إلى مرحلة الضم أو الاندماج، وذلك بإضافة أقاليم صغرى إلى رقعتها الأصلية، ويجب أن يتم امتزاج الأرض بمن عليها من السكان إذا ما أريد إتمام عملية هضم واستيعاب المناطق الجديدة».
تلك القاعدة التي ابتكرها هذا العالم الألماني قبل قيام الحرب العالمية الأولى بفترة كانت مهمة لاحقاً في جميع المحاولات الاستعمارية التي تمت على يد القوى الأوروبية. كانت القوى الاستعمارية تحرص في مستعمراتها على التلاعب بتركيبة السكان، ودمج سكان آخرين معهم، وفرض تغيير ثقافي عليهم مازالت نتائجه باقية إلى اليوم رغم انتهاء الحقبة الاستعمارية من عشرات السنين.
في فبراير 1979 اندلعت الثورة الخمينية بدعم غربي في إيران، وحمل الخميني رؤيته في تصدير الثورة إلى دول الخليج العربي والعالم. تلك الرؤية الطموحة كانت تعتمد بشكل كبير على قاعدة فريدريك راتزل التي تعتبر من أولى قواعد الجيوبوليتيكا حالياً.
رغم وفاة راتزل والخميني مازال طفلاً رضيعاً لم يتجاوز العامين، إلا أن فرق العامين كان كفيلاً بتجسير هوة فكرية بين الاثنين. الأول وضع القواعد والأسسس لكل دول العالم وفقاً لنظريته الشهيرة التي تعامل فيها مع الدولة ككائن حي. والثاني قام بالتنفيذ ليشهد العالم اليوم نتائج تنفيذه في سوريا ولبنان والعراق والبحرين.
تصدير الثورة الإيرانية وفق مبدأ راتزل جلب لنا الكثير من المظاهر والمشاهد المتماثلة من المنامة إلى بيروت مروراً ببغداد وصولاً إلى دمشق. في جميع هذه الدول يمكن أن ترى نتائج جهود طهران ونشاطها الذي استغرق 37 عاماً فقط، تبدلت فيها هُويات، وتحولت فيها ثقافات، واختفت فيها ذاكرة المكان العربية لتظهر ذاكرة مكان مشوهة ومصطنعة تم ابتكارها من قمّ أو طهران.
اجتهدت طهران كثيراً وهي تعيش مرحلة تمدد الدولة بتصدير ثورتها، فاستطاعت سلخ كثير من العرب هُويتهم، وانتماءهم العروبي الأصيل إلى انتماء مشوّه لا كنه له. الأخطر في ذلك أن إيران أثناء تمدد دولتها نشرت ثقافتها على نطاق واسع، فهناك عشرات الآلاف من الكتب التي تم تصديرها وبيعت أو تم توزيعها بالمجان في دول المنطقة منذ سنوات ليست بالقليلة.
المحصلة أن مخرجات ثقافة تصدير الثورة منتشرة في كل مكان، وهي جزء من عملية تمدد الدولة الإيرانية، وكما يتم مواجهة طهران سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فإنه من المهم أن يتم مواجهتها ثقافياً في عملية قد تستغرق وقتاً لأنها تتطلب إرجاع من انسلخوا عن ثقافتهم العربية الإسلامية.