نواصل في الجزء الثاني من المقال حديثنا عن القوى الناعمة في مصر، ومنها الأزهر الشريف. فقد نال الازهر في التاريخ المصري مكانة ربما لم تنالها مؤسسة اخرى اذا استثنينا المؤسسة العسكرية حيث كان للأزهر الدور البارز في قيادة الحركة الوطنية ضد قوى الاستعمار الي جانب دوره في حماية الثقافة الاسلامية.
فحين احتل الفرنسيون مصر في 13 يوليو 1798، اجتمع علماء الأزهر ليرفعوا الروح المعنوية لجماهير الناس، واتفقوا على إرسال مندوب إلى «نابليون بونابرت» قائد الحملة ليطلبوا منه الامان لعموم الشعب، ثم طلب نابليون من المشايخ والعلماء أن يشاركوا في ديوان يشاركه الحكم، وذلك لإدراكه للمكانة الكبيرة التي يحتلها الأزهر في المجتمع المصري، ولذا سعى إلى كسب ود العلماء باعتبارهم على حد قوله كما يقول الجبرتي مؤرخ الحملة «هم زعماء الشعب المصري وحفروا ثقة ومودة سكان مصر عن بكرة أبيهم»، ولذا خلع قاضي القضاة التركي وعين مصرياً لأول مرة هو الشيخ أحمد العريشي معللاً قراره بأن «علماء القاهرة هم أعلم علماء الإسلام»، كما تعددت مظاهر احترام نابليون للعلماء فكان على سبيل المثال يأمر حرس الشرف المرابطين أمام مقر قيادة الجيش الفرنسي أن يؤدوا التحية العسكرية بالسلاح لعلماء الأزهر.
إلا أن الأزهر وبعد 3 أشهر فقط هو الذي قاد الثورة ضد المحتل الغاشم وأصبح الأزهر وجهاً لوجه معه عبر أهم ثورتين عرفهما الشرق جعلت المحتل يقتحم الأزهر بخيوله ويربطها بقبلته ويكسروا القناديل ويهشموا خزائن الطلبة ويدوسون المصاحف.. الخ، لإدراكه أن الأزهر هو مركز القيادة وزعامة الشعب ورمز عزته وسيادته وأن إهانته هي إهانة لعموم الشعب.
وحين تولي محمد علي باشا حكم مصر في 1805، وبعدها بأقل من 3 سنوات دخل الأزهر معه في خلاف شديد بسبب فرض ضريبة قدرها 4% على الحبوب والمأكولات التي تباع في الأسواق والميادين والشوارع، خاصة أن القرار تزامن مع انخفاض شديد في مياه النيل، فكتبوا إليه لرفع المظالم إلا أن الوالي غضب من اتهامه بالظلم وسعى للتضييق الشديد عليهم.
كم قاد الأزهر معارك فكرية أخرى حماية للدين ولعل أبرزها ما أثير في شأن كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم»، والتي انتهت بعزل وزير العدل عبد العزيز باشا فهمي من منصبه. وكذلك معركة الأزهر ضد كتاب الدكتور طه حسين «في الشعر الجاهلي»، فالأزهر كان يتعامل مع هذه الأفكار والقضايا من زاوية أنه المدافع عن الدين الإسلامي الحامل له.
وسعى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للحد من سلطة الأزهر، ففي عام 1961 أصدر قانون إصلاح الأزهر، وأصبح لرئيس الدولة سلطة تعيين شيخ الأزهر، وتم إدماجهم في جهاز الدولة. خلال هذه الفترة أصبح الأزهر قريباً من الدولة بشكل كامل. كما لعب الازهر دوراً وطنياً خلال العدوان الثلاثي على مصر، فمن فوق منبره خاطب عبد الناصر عموم الشعب المصري مما كان له أبلغ الأثر في خروج المصريين رافضين العدوان ومطالبين بالاستقلال وخروج المعتدين.
وبعد وفاة عبد الناصر في عام 1970 أصبح أنور السادات رئيساً للجمهورية، وعبر السادات عن رغبته باستعادة الأزهر كرمز للقيادة المصرية في جميع أنحاء العالم العربي. وحين تولى الرئيس الأسبق حسني مبارك الحكم في 1981 أعطى المزيد من الإدارة الذاتية للأزهر، وتم التنازل عن عدد من سلطات الدولة إلى الأزهر ومع بداية التسعينات أعطي للأزهر القدرة على فرض رقابة على كل المطبوعات والإعلام الإلكتروني.
وفي 2010، تم تعيين د.أحمد الطيب شيخاً للأزهر، ووصف فضيلته بأنه أكثر ميلاً للاستقلالية، وإعادة الاعتبار لهذه المؤسسة الدينية العريقة، وهو عالم مرموق، عرف بمطالبته للدول العربية والإسلامية بالوقوف إلى جانب فلسطين وإقامة الدولة وعاصمتها القدس، ودعوة العالم الحر للوقوف ضد أمريكا بعد إعلانها استخدام حق الفيتو.
وكانت دعوة الفريق أول عبدالفتاح السيسي لشيخ الأزهر والشباب في 30 يونيو 2013، والاتفاق على عزل الرئيس السابق محمد مرسي دفاعاً عن الدور الوطنى للأزهر في إنقاذ الدولة المصرية مع عموم المصريين لإنهاء حكم الإخوان، باعتباره مؤسسة وطنية دينية تشارك في الحفاظ على الدولة المصرية.
ولذا كانت زيارة جلالة الملك إلى الأزهر الشريف ضمن زيارته التاريخية لمصر تأكيداً على المكانة التاريخية والوطنية التي تحظى بها هذه المؤسسة في نفوس أصحاب الفطر السوية على مستوى العالم، فالأزهر قلعة الوسطية والاعتدال والفهم الصحيح للإسلام، ومنارة دينية وعلمية تقوم بدورها في مواجهة التيارات المتشددة والطائفية التي توظف الإسلام من أجل تحقيق المزيد من التمدد والسيطرة على العالم العربي، ولذا أكد فضيلة شيخ الأزهر أن الزيارة الملكية ليست تقديراً للأزهر فحسب، وإنما تقدير وتكريم لأكثر من 100 من دول العالم الإسلامي. كما سجل التاريخ للأزهر «موقفه الأصيل»، بدعمه سيادة البحرين ووحدتها واستقلال إرادتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. وللحديث بقية.
* أستاذ الإعلام المساعد بجامعة البحرين