كلماتي الأولى.. أبدأها بقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: «إن كان لك أب شيخ كبير محتاج إليك، فاذكر أنه طالما تعب لتستريح أنت وشقي لتسعد، ما جمع المال إلا لك وما خسر ماضيه إلا ليضمن مستقبلك، وأنه كان يعود من عمله محطماً مكدوداً فتثب إلى حجره وتقول له: بابا، وتمد يديك الصغيرتين لتعانقه، فينسى بك التعب والنصب، ويرى المسرات كلها قد جمعت له والمتاعب كلها قد نأت عنه».
والدي الحنون.. مرت سنتان على فراقك، ورحيلك من دنيانا الفانية.. فمازالت همساتك ومشيتك معي إلى المسجد كل جمعة.. صور مضيئة لم تغب عن ناظري بعد ساعة رحيلك.. مازالت لمتنا الأسرية تلحظ وجودك بينها وأنت تتربع على كرسي الأبوة الحانية المستمتعة بتجمع الأبناء والأحفاد معها.. كنت تترقب قربنا منك، وتسأل عن غيابنا عنك، وتقسو أحياناً لأن وجودنا أمامك صمام الأمان لنفسك التي تحب فلذات أكبادها وإن تزوجوا وانتقلوا إلى بيوتهم.. لن أترك ظلك يوماً ما.. أبداً ما حييت.. لن أترك ذلك الأثر الذي تركته لي.. والفضل الذي شيد بنيان حياتي.. حتى وصلت إلى ما أنا فيه الآن.. سأقسو على نفسي حتى تتعلم البر.. لأني تعلمته مراراً.. ولكني لم أوفيه حقه كما أمرني به ربي.. اليوم يا أبي ابنك آخر العنقود قد حقق صورة جميلة كنت تتمناها وتفرح بها كلما رأيتها أمام ناظريك في التلفاز.. أو تصفحت الجريدة فتتهلل أسارير وجهك كلما رأيت صورة ابنك وهو يعتلي مناصب الخير من أجل خدمة وطنه والمحتاجين، ورسم الابتسامة في كل الميادين.
أبي الحبيب.. مازلت أذكر ذلك الحرص الذي غمرتني به.. في بدايات نشأتي في هذه الحياة المثقلة بالنصب والتعب.. مازلت أذكر سعيك لي لأدرس وأعمل وأعتلي مراتب الخير.. فوقفت بجانبي كثيراً.. وساعدتني.. والفضل بعد الله تعالى يعود إليك يا من غمرتني بعطفك وكرمك وعلمتني دروس الحياة التي مهما كتبتها وأعدتها على مسامع أبنائي.. فإني لن أوفيها حقها..
نعم.. إنها دروس الأبوة الحانية.. ودروس الوفاء والبر بمن أفنى حياته حتى يسعد الأبناء.. هم لم يستوعبوا الدرس جيداً في مهدهم.. فلم يفهموا لماذا تقسو الأبوة أحياناً.. ولماذا تتسلل إلى نفوسهم معاني الجفاء في أحيان أخرى بسبب سلسلة من التوجيهات والقوانين الأسرية.. لم يفهموها ولن يفهموها ولن يعرفوا قدرها إلا بعد أن تتكون تلك الأسرة الجميلة، ويكرمهم المولى الكريم بالأبناء.. لن يفهموها إلا إذا لبسوا ثوب المسؤولية التي أرغمتهم على الكد والتعب والسعي إلى تكوين أسرة مثالية في جميع أحوالها..
كلما مضت سنة من أعمارنا وتقدم القارب إلى منتهاه، كلما أيقنت أن صور الحياة الجميلة لا تتكرر كثيراً في حياتنا، وبخاصة مع الوالد الحبيب.. فالعيش معه أجور تتعاظم، ومشاعر تتراكم، ودروس في تعلم مسؤوليات الحياة والاعتماد على النفس.. فكم نحن بحاجة ماسة لكتابة فنون ذلك السيل المتدفق من المشاعر الفياضة التي نستقبل بها والدنا الحنون.. وأمنا الغالية.. ونعلمها لأبنائنا.. حتى يفهموا كيف ينجحوا في تكوين أسرة سعيدة..
وكلماتي الثانية.. أبثها لابنك البار الذي أسعدك ببره، وتألق في سماء العطاء أسوة بمسيرك في الحياة.. ابنك الذي لا يتردد أبداً أن يكون سندك في الحياة، وعونك في قضاء الحوائج، وبلسم جراحات نفسك إن ضاقت بك الأمور.. ابنك الذي لا ينساك أبداً مهما تغيرت الأحوال وقست الظروف.. ابنك الذي كلما حانت الفرصة أن يكون في مراتب التألق والتميز.. صفق لك وأثنى على تربيتك وكتب لك كلمات الحب والوفاء.. ابنك الذي إن رآك من بعيد أقبل يعدو ليقبل جبينك وأناملك.. ويقول لك بكل حنان: شكراً أبي وأستاذي يا من علمتني وأسعدتني وعشت معك أجمل اللحظات.. شكراً لك فقد نسجت لي أجمل الثياب، ووضعت أمامي عتبات التحديات حتى أنهض مرات ومرات كلما أرغمتني الظروف أن أتعثر لأتعلم وأصنع النجاح، وأصنع شخصية مبدعة يشار إليها بالبنان.. ابنك الذي لا يتردد أن يمسك بيدك ويبادلك كلمات الحب والعرفان.. فلا يتجرأ أن يرفع صوته عليك، أو يضجر من كلامك، فقد علمته الحياة أن يكون البلسم الشافي لمن ضحى لأجل إسعاد أبنائه.. ابنك الذي إن غبت عنه أرسل لك مع حمائم الحب أجمل ورود الود والعشق.. نعم إنه الابن البار الوفي..
وكلماتي الأخيرة.. لمن نكروا الجميل وجحدوا بالمعروف، وأضحت حياتهم عشق للأموال وصناعة للأمجاد على بساط الحياة.. فعجبي لمن خلت حياتهم من الخيرية ولحظات التطوع الجميلة وحب الخير.. وكلمات حب وعرفان لجيل يحب أن يستمتع بكل لحظة في حياته.. فساعات حياته سخرها في خدمة الخير، فلا تراه يتكلم إلا عن حب الأجر والعمل من أجل إسعاد الآخرين لأنه يعشق الجنان.. ولسان حاله أن السعادة إنما هي كلمات نكتبها في قلوب كل من نحب، ومشاعر نتمثلها في حياة البشر، وأعمال نقوم بها من أجل أن نصنع الأثر.. أعمال لا نبتغي من ورائها أجور الدنيا.. ولا نتكلم من خلالها بلغة «الأنا» التي تتملك نجاحاتها لوحدها، وتبذل الجهود.. لتقول ها قد بذلت.. فهل ستقدرون جهدي؟ فهي المواقف التي ينبغي أن نمحو ملامحها من حياة الصاعدين في مراتب السمو والنجاح..
* همسة:
كلمات المواقف لن يفهم معانيها إلا من عرف أصالتك، وتقاسيم نفسك، ونقاء قلبك.. فاعرف كيف تكون أنموذج المحبة والعطاء..