قد يكون تقبل الآخر هو الأنا أو الذات الشخصية، وقد يكون الآخر هو كل من يختلف عنا أو لا يشبهنا من حيث اللون، والجنس، والعادات، والتقاليد، والفكر، والقيم، والتوجه السياسي والديني. فثقافة تقبل الآخر هي المبدأ المعتاد لحل الخلافات خاصة التمييزية، لكن عندما تنحرف تلك الخلافات عن الهدف لتشكل ثقافة اللاتقبل للآخر، فهنا نكون عند منحدر خطير جداً لاستحالة القدرة على التعايش معاً.
كنتُ في زيارة تعريفية في مدينة بلفست بالمملكة المتحدة مؤخراً لمعرفة تاريخ هذه المدينة المكافحة من أجل بناء السلام ومحاولة تعزيز مبدأ تقبل الآخر، وكذلك للاستفادة من الخبرات البريطانية في كيفية بناء قدرات بشرية لنشر ثقافة السلام في بلادنا. فمدينة بلفست هي عاصمة إيرلندا الشمالية. وتتمتع بلفست بتاريخ صناعي عريق، ففيها تم بناء سفينة تايتانك الشهيرة. وتعتبر مدينة بلفست أحد أقسام المملكة المتحدة، حيث تم تقسيم الجزيرة الايرلندية إلى قسمين، قسم جمهورية إيرلندا المستقلة في الجنوب، وقسم ولاية شمال إيرلندا التي تضم ستة مقاطعات تعتبر جزءاً من المملكة البريطانية المتحدة، حيث نلاحظ ان التسمية الرسمية لبريطانيا هي «المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية».
وعليه، فإن الصراع البريطاني - الإيرلندي يرجع إلى انقسام إيرلندا الشمالية عن إيرلندا الجنوبية منذ عام 1920، ومحاولة بريطانيا إبقاء إيرلندا الشمالية تحت نفوذها وذلك بعد احتلالها لها منذ عام 1800، وعلى الصعيد المتصل، محاولة إيرلندا استعادة سيادتها على أراضيها. ولذلك نشأ الجيش الجمهوري الإيرلندي مع نهاية الحرب العالمية الأولى والذي ظل يكافح من أجل وحدة إيرلندا ومن أجل تقرير وحدة المصير، والمطالبة بالمساواة في الحقوق والحريات المدنية والدينية، وعلى مناهضة الطائفية والمذهبية، حيث إن أصل الأزمة يرجع إلى استفحال التمييز ضد سكان إيرلندا الشمالية الأصليين «الكاثوليك» في جميع المجالات كما في التوظيف والتعليم والطب في تلك البقعة الشمالية، وخاصة بعد أن قامت بريطانيا بتغيير التركيبة الديمغرافية للمدينة من خلال تطبيق سياسة المجاعة، بهدف إجبار المواطنين الأصليين للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وذلك من أجل جلب السكان الموالين لبريطانيا «البروتستانت» للسكن فيها. ولو أمعنا النظر في ذلك، للاحظنا أن الأمر عينه يحدث في الأراضي الفلسطينية المحتلة، التي يتم الضغط فيها على الفلسطينيين لترحيلهم وجلب العائلات الإسرائيلية للاستيطان فيها، مما يصعب أمر التعايش معا ويدمي مبدأ تقبل الآخر ويعزز من اللاتقبل للآخر في ظل فكرة وجود مواطن أصيل وغريب محتل.
وعليه، فإن الصراع في إيرلندا الشمالية يشكل نموذجاً دموياً لأبرز الصراعات المهمة في العالم التي تقوم على أساس الدين والطائفية، والتي كانت تمثل «الصدع» الأساسي لغرب أوروبا. فقد انقسمت الأحزاب في إيرلندا الشمالية إلى طائفتين، البروتستانت «القوميين» وهم الموالين لبريطانيا، والكاثوليك «الجمهوريين» وهم الموالين لإيرلندا، واندلعت الحروب ما بين الجيش البريطاني والجيش الجمهوري الإيرلندي ما بين عامي 1972 و1973 مما أدى إلى مظاهرات دامية، وسقوط العديد من القتلى والضحايا خاصة المدنيين، وهدمت العديد من الآثار والمباني المهمة، إلى جانب زعزعة الأمن والاستقرار، ونتيجة الوضع المؤلم تم توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة في عام 1998 التي كانت الخطوة الأولى لإقرار عملية السلام بين الأطراف المتنازعة في ايرلندا الشمالية.
ولذلك، فقد تم بناء جدران عظيمة في السمك والطول تفصل ما بين الأحياء التي يقطنها الكاثوليك عن تلك التي يقطنها البروتستانت في إيرلندا الشمالية، كوسيلة للحماية من آثار الحرب الأهلية المدمرة، سميت لاحقا بـ «جدران السلام» حيث تم تلوين تلك الجدران بألوان ورسومات بناءة من أجل نشر ثقافة السلام بين الأطراف المتنازعة.
وفي نهاية المطاف، لم تستطع تلك الجدران تحقيق السلام، بل عززت حالة العزلة والانفصال ما بين المواطنين، كما قلصت إلى أدنى مستوى إمكانية إزالة الحواجز الفاصلة بين المجتمعات، فالمستشفى والمدرسة والملعب والكنيسة التي يزورها أو يشغلها المواطن الكاثوليكي تكون محرمه على نظيره البروتستانتي والعكس صحيح. من ناحية أخرى، فقد استخدمت الجدران لمآرب سياسية كما في إقصاء المواطنين، أو تهريب الأسلحة أو الممنوعات. ونشير إلى قصة طريفة في هذا الموضوع، فكان هناك منزل لأحد المواطنين في وسط ساحة القتال بين الأطراف المتنازعة، مما اقتضى بناء جدار الفصل عليه لوجوده في منطقة نزاع، فباتت غرفة الطعام وغرفة النوم في أحياء الكاثوليك، وغرفة الضيوف وملاحق المنزل في أحياء البروتستانت، مما سهل مغامرة هذا المواطن بمساعدة المحتاجين من الأطراف المتنازعة في تهريب الزيوت، والأدوية، والأطعمة من خلال منزله المقسم إلى نصفين!
«وللحديث بقية»