«الأيام الخوالي بين السعودية وأمريكا انتهت إلى غير رجعة، ويجب أن يعاد تقييم العلاقة بين البلدين، برأيي الشخصي أمريكا تغيرت بمقدار ما تغيرنا نحن هنا، وهناك جانب إيجابي في تصرفات الرئيس باراك أوباما وتصريحاته هي أنها أيقظت الجميع على أن هناك تغييراً في أمريكا، وأن علينا أن نتعامل مع هذا التغيير، إلى أي مدى يمكننا أن نذهب في اعتمادنا على أمريكا، وكم يمكننا أن نعتمد على ثبات توجهات القيادة الأمريكية، وما الذي يمكن أن يجعل مصالحنا المشتركة تلتقي معاً، هذه أمور علينا أن نعيد تقييمها، لا أعتقد أنه علينا أن نتوقع من أي رئيس امريكي جديد العودة، كما قلت، إلى الأيام الخوالي حين كانت الأمور مختلفة». تلك التصريحات السابقة لرئيس الاستخبارات السعودية السابق وسفير الرياض السابق في واشنطن الأمير تركي الفيصل تجسد واقع العلاقات ليس بين الرياض وواشنطن فقط، ولكن بين الأخيرة ودول مجلس التعاون الخليجي. والمتتبع لسياسة إدارة أوباما خاصة خلال فترة ولايته الثانية يلحظ بدقة محطات التباين والازدواجية، وربما تذهب إلى حد أبعد من ذلك فتبلغ حد التخبط. لقد أعاد أوباما خلط الأوراق في المنطقة وأثار في الوقت نفسه غضب دول الخليج، حلفاء بلاده منذ زمن طويل، برفضه التدخل ضد نظام بشار الأسد في سوريا، وامتناعه في اللحظة الأخيرة عن توجيه ضربة عسكرية ضده في صيف 2013، ثم إعادته إيران، إلى الساحة الدبلوماسية الدولية، بالاتفاق الذي توصلت إليه الدول الكبرى، حول ملفها النووي في صيف 2015، وإعلانه بوضوح أن لأمريكا أولويات أخرى غير الشرق الأوسط في مقدمتها آسيا.
وبالتالي، تصريحات ومواقف المسؤولين الأمريكيين وعلى رأسهم أوباما خلال الفترة الماضية، تكشف تناقض السياسة الأمريكية بين ساعة وأخرى، ففي منتصف مارس الماضي أدلى الرئيس الأمريكي بتصريحات لمجلة «ذي أتلانتيك» قال فيها إن «المنافسة بين السعودية وإيران والتي ساهمت في الحرب بالوكالة وفي الفوضى في سوريا والعراق واليمن، تدفعنا إلى أن نطلب من حلفائنا ومن الإيرانيين أن يجدوا سبيلاً فعالاً لإقامة علاقات حسن جوار ونوع من السلام الفاتر». وهنا كشفت التصريحات أن أوباما يساوي بين حليفه الاستراتيجي التاريخي وعدوه الذي ينعته بـ«الشيطان الأكبر»!
وبعد أسبوعين، وتحديداً في 7 أبريل الحالي، أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، من قلب العاصمة البحرينية المنامة، أن «مساعي إيران لزعزعة الاستقرار تبقى تحدياً، ونحن نعلم أن إيران تدعم «حزب الله»، ونحن لا نصدق الإيرانيين ولا نثق بأقوالهم، ولا توجد أية مفاوضات ولا علاقات دبلوماسية بين أمريكا وإيران ولا انفراجة في القضايا الأخرى». وقبل أيام، كشفت قضية أخرى أن التباين حول الملفات الإقليمية ليس نقطة الخلاف الوحيدة حالياً بين الرياض وواشنطن، فالكونغرس يبحث مشروع قرار يجيز للقضاء الأمريكي النظر في دعاوى قد ترفع إليه، تطال الحكومة السعودية أو مسؤولين، على دور مزعوم في أحداث 11 سبتمبر 2001، لكن أوباما سارع وأكد معارضته مشروع القرار. وأفادت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية بأن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير حذر من أن إقرار المشروع سيدفع السعودية لبيع سندات خزينة أمريكية تصل إلى 750 مليار دولار فضلاً عن أصول أخرى تملكها في أمريكا وسحب استثمارات، وهو ما دفع البيت الأبيض إلى التأكيد على أن «أوباما لن يتوانى عن استخدام الفيتو ضد مشروع القانون إذا أقره الكونغرس». وهذا ما دفع رئيس مجلس النواب الأمريكي بول ريان إلى القول إنه «يعتقد أن على الكونغرس أن يعيد النظر في مشروع القانون لنضمن ألا نرتكب أخطاء مع حلفائنا». ولأن التباين سيد الموقف في تصريحات المسؤولين الأمريكيين، وعشية زيارة أوباما للسعودية للمشاركة في القمة الخليجية الأمريكية، صرح مسؤول أمريكي أن «بلاده تقترح على دول الخليج تكثيف التعاون الدفاعي خصوصاً تدريب القوات الخاصة وتنمية القدرات البحرية لمواجهة نشاطات زعزعة الاستقرار الإيرانية».
وقبل 24 ساعة من انعقاد القمة، تم الإعلان عن اتفاق بين دول مجلس التعاون وأمريكا على تسيير دوريات مشتركة لمنع أي شحنات أسلحة إيرانية من الوصول لليمن، والتعاون لبناء أنظمة الدفاع الصاروخي المشتركة لدول مجلس التعاون الخليجي وتطوير القوات الخاصة. ووصف وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر من الرياض دعم إيران لـ«حزب الله» بـ«الأنشطة الخبيثة»، مشدداً على «التزام بلاده بأمن دول الخليج»، مضيفاً أن «أمريكا تتعهد بمواصلة جهودها لمواجهة الانتهاكات الإيرانية في المنطقة»، مؤكداً أن «واشنطن ستبقي العقوبات فيما يتعلق بالإرهاب والصواريخ الباليستية لإيران». وخلال القمة الخليجية الأمريكية، شدد الرئيس الأمريكي على «دعم دول مجلس التعاون في مواجهة الإرهاب الإيراني وعرض تقديم إجراءات إضافية لدرء خطر الصواريخ الإيرانية».
وما هي إلا ساعات على مغادرة أوباما الرياض، حتى أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن واشنطن ستشتري 32 طناً من المياه الثقيلة من إيران لتلبية حاجات الصناعة والأبحاث النووية الأمريكية، في وقت يبحث البلدان تطبيق الاتفاق النووي، الأمر الذي اعتبره رئيس مجلس النواب الأمريكي الجمهوري بول ريان «تنازلاً آخر غير مسبوق لأهم رعاة الإرهاب في العالم»، مضيفاً أن «الصفقة التي تبلغ قيمتها 8.6 مليون دولار تبدو في إطار محاولات إدارة أوباما لتسويق الاتفاق النووي وأنها ستؤدي لدعم البرنامج النووي الإيراني بصورة مباشرة»، غداة قرار للمحكمة العليا الأمريكية يلزم إيران بدفع تعويضات بقيمة ملياري دولار يطالب بها أكثر من ألف من ضحايا أمريكيين لاعتداءات إرهابية خططت لها طهران، الأمر الذي يكشف ازدواجية السياسة الأمريكية وتناقض الرسائل حيال قضايا مختلفة، وتبدل المواقف بين ساعة وأخرى!
* وقفة:
الزيارة الرابعة لأوباما إلى الخليج منذ توليه مهامه مطلع عام 2009، والأخيرة قبل مغادرته المنصب نهاية العام الحالي، ربما تفشل في جسر الهوة مع دول الخليج، ما دفع الأخيرة قبل فترة إلى القيام مؤخراً بلعب دور إقليمي مؤثر بالرهان على قدراتها الذاتية وبناء تحالفات جديدة تقوم على تداخل المصالح. وهذا ما خلصت إليه صحيفة «التايمز» البريطانية في افتتاحيتها مؤخراً حينما قالت إن «الوقت حان للمصارحة بين دول الخليج وأمريكا»، فهل ستعود «الأيام الخوالي مجدداً؟!».