في تاريخ علم السياسة تبرز مدرستان مهمتان، الأولى المدرسة الواقعية، والثانية المدرسة المثالية، وينتمي بعض الباحثين والأكاديميين لهذه المدرسة أو تلك. فالمدرسة الواقعية ترى الحياة على حقيقتها، من عنف وإرهاب وتخلف، وفي نفس الوقت تنظر للنصف الثاني من الكوب، من حيث التقدم والإنجاز العلمي والتكنولوجي والسياسي. المدرسة المثالية تسعى للكمال الذي هو غاية لا تدرك وكل ابن آدم لابد أن يعتريه النقص بصورة أو بأخرى. وما بين المدرستين مدرسة ثالثة تنظر للمستقبل بأمل، وتقارن بين ما كان وما هو كائن اليوم، فتجد العالم بأسره يتقدم ويحقق ما يشبه المعجزات، ولكنها لا تركن للرضا وتسعى للتطور وتقديم المقترحات الواقعية في ضوء الدراسة التجريبية، وليس من منظور من يعيشون في برج عاجي.
والعلماء الذين حفظ التاريخ أسماءهم هم من قدموا فكرة أو حققوا ابتكاراً ولو واحداً وهم كثيرون، فلو نظرنا لمكتشف البنسلين أو مخترع التليفون أو مكتشف النار أو مبتكر الكمبيوتر أو الإيميل «البريد الإلكتروني» لوجدناه شخصاً رجلاً أو سيدة واحداً خلد التاريخ السياسي والاقتصادي والعلمي اسمه بينما هناك فريق من المثقفين، تخصصوا في النظرة السوداوية ولا يرون في الكون والعالم سوى التخلف والإرهاب والفساد والمرض والجوع والانحراف والاستبداد والظلم، وهي ظواهر طبيعية موجودة في الحياة لكن مقابلها هناك ظواهر إيجابية كثيرة في شتى المجالات وفي مختلف الدول.
إن بعض المثقفين العرب يعيشون في ثلات حالات نفسية، الأولى عقلية المؤامرة، وهي حالة مرضية عميقة الجذور، أن تنظر للآخر كفرد أو جماعة أو دولة، بأنهم يتآمرون ضدك، وتعيش في هذه الدوامة. والثانية مرض الثرثرة، وتخصص فيها البعض بكتابة الكثير من المقالات التي تندب حظه أو دولته أو العالم العربي أو العالم الإسلامي ونحو ذلك من المجتمعات، ويكرر الكلام عشرات المرات، فهو من قبيل اللغو والعبث الذي لا طائل منه. والثالثة أن ينسي المثقف نفسه ومجتمعه ودولته ويتفرغ لنقد الآخر. فالآخر متخلف ومنحرف وفاشل ومقصر وغير ذلك من الصفات. وماذا عن مجتمعك أو دولتك أيها المثقف؟ وماذا قدمت لهم من مساهمة إيجابية؟ فأحيانا يقول لك إننا جميعاً في الهم عرب، ولماذا نعيش في الهم؟ فلتعش فيه أنت إذا رغبت وتترك الآخرين يعملون ولا تنشر عليهم سمومك من الإحباط والتشاؤم واليأس.
وعلى الجانب الآخر من الصورة نجد المثل الصيني يقول «لئن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام». والإسلام في بعض أقواله «بشروا ولا تنفروا». وروي في الأثر القول «إن الناس معادن وكل إناء بما فيه ينضح». والسيد المسيح قال لتلاميذه عندما تساءلوا كيف يجلس مع سيدة عاهرة «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر».
ويعجبني كاتب ومفكر عربي عراقي هو الدكتورعبد الحسين شعبان في مقال بجريدة «الخليج» الإماراتية في 21 مارس 2016 بعنوان «الحق في الآمل» والدكتور شعبان تفرغ لقضية حقوق الإنسان والدفاع عنها والتحليل السياسي العقلاني للمجتمع العربي.
كما أنشأت حكومة الامارات وزارة للسعادة وهكذا تبث الأمل وتحث على العمل والإنجاز ولو كانت ماري كوري وغيرها جلسوا مثل بعض مثقفينا يندبون حظوظهم لتأخر العالم، ولو اقتدى العالم العربي وخاصة الفلسطينيين بعقلية ونشاط حنان الحروب المعلمة الفلسطينية لتقدم العالم وساده السلام بدلاً من الحروب والنضال الشفوي والعنتريات، ولو جلس جمال حمدان يندب حظه لما أنتج لنا رائعته في ثلاثة مجلدات عن شخصية مصر. أما الشيخة مي بنت محمد آل خليفة فهي تردد دائماً مفهوم الجمال في كثير من مداخلاتها في مركز الشيخ إبراهيم. وفي علم السياسة قدم الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون فكرتين عن حق تقرير المصير واللتين غيرتا تاريخ شعوب كثيرة وأتاحتا المجال لتصفية المستعمرات، وفكرة إنشاء تنظيم دولي هوعصبة الأمم ولكن دعاة العزلة في الكونغرس رفضوا الموافقة على انضمام الولايات المتحدة. والعالم بأسره نسيهم وما زال يتذكر ويلسون وفكره.
وفي مصر جاء محمد علي ليبني النهضة الحديثة، ورفاعة الطهطاوي ليبشر بالنهضة الفكرية وحقوق المرأة، وبعده قاسم أمين ومحمد عبده، ليدعو للتجديد الديني، وطلعت حرب ليبني نهضة اقتصادية، وعلي عبد الرازق ليدحض مفهوم خلط الدين بالنظام السياسي.
إننا في العالم العربي في حاجة ماسة لإحياء الأمل والتفاؤل مهما كانت الظروف قاسية وليس إشاعة الإحباط والتشاؤم واليأس وترديد الفكر المتخلف الذي عفا عليه الزمن.