في مقابلة حصرية مع قناة «سي إن إن الأمريكية» قبل شهر تقريباً، أكد وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بثقة تامة أن «روسيا لن تتمكن من إنقاذ بشار الأسد»، مشدداً على أن «الأخير ضعيف وأن أمره انتهى». وبعد شهر من تصريحاته، وتحديداً يوم الإثنين 14 مارس 2016 أعلنت موسكو أنها ستسحب الجزء الأكبر من قواتها على الأرض بعدما «أنجزت» مهمتها في سوريا اثر تدخل جوي بدأ في 30 سبتمبر 2015 دعماً للنظام ساهم في تقوية مواقع الأخير وفي إحرازه تقدماً كبيراً على جبهات عدة. وعلى مدى 167 يوماً وبدعوى محاربة الإرهاب، دكت مقاتلات سلاح الجو الروسي المدن السورية بآلاف الأطنان من المتفجرات، أسفرت عن تحقيق مكاسب لنظام الأسد على الأرض، وخلفت آلاف الضحايا وأضعافهم من النازحين واللاجئين.
ولاشك في أن الانسحاب الروسي الجزئي المفاجئ يشكل صفعة قوية على وجه نظام الأسد، وربما سيكون لذلك الانسحاب تداعيات كبيرة على مستقبل الأسد نفسه، وعلى العملية السياسية برمتها في سوريا. ولا يمكن استبعاد احتمالات تغيير قواعد اللعبة السياسية ففي الوقت الذي أطلق فيه وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم تصريحاته العنترية من قلب دمشق وأعلن فيها أن «الأسد خط أحمر والانتخابات الرئاسية خط أحمر»، ردت روسيا الحليف الأكبر للأسد بسحب قواتها قبل ساعات من انطلاق المفاوضات بين النظام والمعارضة في جنيف!
ولم تحدد موسكو مهلة لانسحابها، إلا أنها أبقت «أحدث» انظمة الدفاع الجوي في سوريا، وأبقت على 800 جندي منتشرين في البلاد، إضافة إلى احتفاظها بمنظومة صورايخ «إس 400» المضادة للطائرات.
وربما رأت موسكو أن التدخل في سوريا أمر منطقي من الناحية العسكرية والدبلوماسية بل وعلى صعيد السياسة الداخلية إذ كان الكرملين يحرص على دعم أقرب حلفائه في منطقة الشرق الأوسط وحماية قاعدته البحرية الوحيدة في البحر المتوسط، وقد حقق هذين الهدفين إلى حد بعيد.
وإعلان روسيا الانسحاب من سوريا ربما يوحي بأنها تنشد لنفسها مخرجاً من الصراع هناك، وربما يفتح المجال أمام تشكيل حكومة يقودها شخص آخر غير الأسد، وقد تكون عملية الانسحاب نهاية الدعم الروسي غير المشروط للأسد مع ضرورة التوصل لحل سياسي من خلال هيئة حكم انتقالي لا يكون لبشار الأسد أي دور فيها. وهناك جملة أسباب وراء إعلان الانسحاب المفاجئ ليس أولها انتزاع تنازلات من الغرب وأمريكا، وتخفيف العقوبات على الدب الروسي، وليس آخرها الضغط على نظام الأسد للتفاوض بجدية في جنيف، خاصة بعدما برزت خلافات على السطح بين موسكو ودمشق تسببت فيها تصريحات للأسد نفسه في 18 فبراير الماضي قال فيها إن «القتال مستمر لاستعادة كامل الأراضي»، وجاءه الرد قاسياً من مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين الذي حذر من أن «تصريحات الأسد مجرد تقييم شخصي ولا تنسجم مع الجهود الدبلوماسية لروسيا».
في الوقت ذاته، لابد من التأكيد على أن مكافحة الإرهاب لم تكن يوماً غاية بوتين فقد أراد أن يُظْهِر للعالم أن روسيا تقف إلى جانب حلفائها وأن ينتزع نفوذاً جديداً لبلاده في الشرق الأوسط وأوروبا، وما دفعه لأخذ هذه الخطوة هو اعتقاده أن التدخل العسكري ضمن له مقعداً على مائدة الكبار في إدارة الشؤون العالمية. ويدرك منتقدي بوتين جيدا المكانة التي حققتها سوريا لسيد الكرملين، وبرز ذلك من خلال تصريحات وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» الشهر الماضي حينما قال «يوجد رجل واحد على هذا الكوكب يمكنه أن ينهي الحرب في سوريا بمكالمة هاتفية وهذا الرجل هو بوتين». وبالتالي فإن روسيا عادت إلى مجلس الإدارة العالمي، وإلى المائدة التي تقرر عليها القوى العالمية والإقليمية مصير صراعات الآخرين، وقد اشتهر عن بوتين غموضه واستحالة التنبؤ بتصرفاته ولم يكن قراره خفض الوجود العسكري الروسي في سوريا استثناء من ذلك.
وبعد أن كان قادة الغرب يترفعون عن التعامل مع روسيا أصبحت الأخيرة الآن طرفاً معتاداً للتحاور عند واشنطن وقادة الاتحاد الأوروبي.
والمتتبع للأحداث يرى أنه في غضون 6 أشهر تحولت روسيا من دولة منبوذة في الغرب بسبب ضم شبه جزيرة القرم ودعم المتمردين المؤيدين للكرملين شرق أوكرانيا إلى شريك لحل الأزمة السورية.
ولا يمكن تجاهل احتمال أن بوتين شعر أنه حصل على الفوائد السياسية ومن الأفضل الانسحاب قبل زيادة التكاليف حيث تقدر مراكز الأبحاث أن التدخل العسكري الروسي في سوريا من 30 سبتمبر 2015 وحتى 14 مارس 2016 كلف موسكو نحو 800 مليون دولار مع قيامها بنحو 9000 طلعة جوية، وبينما تشير الإحصاءات الرسمية للجيش الروسي إلى سقوط 4 قتلى في صفوفه، فإنه في الوقت ذاته، لا يمكن بأي حال من الأحوال، تجاهل حادثة سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء نهاية أكتوبر الماضي، ما أسفر عن مقتل 224 شخصاً، قال تنظيم الدولة «داعش» المتطرف إنها «انتقاماً للتدخل العسكري الروسي بسوريا».
* وقفة:
إعلان روسيا المفاجئ سحب الجزء الأكبر من قواتها من سوريا يرفع معنويات فصائل المعارضة المسلحة التي تعتبر قرار موسكو نكسة لقوات الأسد، وهزيمة معنوية لقوات النظام تزامناً مع سحب «حزب الله» المئات من مقاتليه من حلب. وربما قطع روسيا المحتمل لشريان الحياة الذي ظلت تمده إلى الأسد قد يضطر الأخير إلى تغيير حساباته في جنيف، وربما تذهب التحليلات إلى أبعد من ذلك، فماذا بعد الانسحاب إلا الهزيمة!