حدثني أحدهم ساخراً، «تدعين أن مقالاتك موجهة بالمقام الأول إلى صانع القرار.. فهل لصناعة القرار مطبخاً كمطبخك الإعلامي؟» دعاني هذا للتفكر ملياً ولأن أقيم في نفسي محاكمة عادلة لقضية صناعة القرار السياسي في المنطقة العربية، تاريخه، واقعه، مرتكزاته، مآلاته..!!
ولكي أنصف جانباً مضيئاً من صناعة القرار السياسي، فإننا كخليجيين نفخر اليوم بما لدينا من عقليات محنكة ومخضرمة مكنت من قيادة «عاصفة الحزم»، وأرست قواعد القوة في وجه قوى الشر عبر «رعد الشمال»، واتخذت مواقفاً حاسمة على عدد من الجبهات السياسية في مفاصل مهمة تشهدها المنطقة، فضلاً عن اعتزازنا بتحقيق بعض النجاحات الداخلية في ظل الظروف المتأججة من حولنا، والتي يعود الفضل فيها لقياداتنا الشابة المعطاءة.
ولكن هذا المقال جاء خصيصاً للتساؤل حول تلك الحلقة المفقودة في مطبخ صناعة القرار السياسي، والتي تسببت في إخفاقنا في بعض القرارات ولمرات عديدة في عالمنا العربي!! تُرى.. كم عدد القرارات التي طرحها صانع القرار السياسي في العالم العربي اعتباطيا ففشلت؟! كم عدد القرارات التي اتخذها صانع القرار في العالم العربي فأصبح الناس على أخبار تحققها بتصريح أو قرار كارثي يسفر عنه فشل ذريع؟! والسؤال الأهم.. ما جدوى المستشارين في عالمنا العربي وفي المنطقة إن لم يطلب منهم التباحث حول جدوى مقترح ما أو قرار؟ ما جدوى مراكز الأبحاث المتخصصة في الدراسات السياسية وتحولات المجتمع - لا سيما تلك الموثوق بها - ما لم يُلقَ بأفكار ومشروعات هامة في ميدانها، لدراستها والوقوف على حيثياتها، بما يمكن من استشراف نتائج طرحها أو عدمه بالعودة لذوي الخبرة والاختصاص؟
إن اللجوء للبحث العلمي ومراكزه لا يقل أهمية عن العدة والعتاد العسكريين، أغلب حروب الأرض الأخيرة استخباراتية، معلوماتية، تكنولوجية، ولعل الجانب العسكري في آخرها، ولكنه الوحيد الذي نركز عليه. تعلمنا من التسويق أن الفكرة المبتكرة والمبدعة أساس المشروع الناجح، فهل منحنا أنفسنا ما يكفي من الوقت لتحويل عواصفنا إلى الأذهان بدلاً من الميدان، ولتبادل المعلومات وتفنيدها؟!
على هامش استضافتنا الفاخرة بأبوظبي في آخر ندوة أقامها مركز الإمارات للسياسات، وعلى متن قارب في عرض البحر، حدثني زميل عن تجربة جارتنا الشرقية «إيران»، كيف تقيم لقاءاتها العلمية في استضافات متواضعة جداً للباحثين، فيما تتمخض تلك اللقاءات عن مخرجات وأفكار غاية في الأهمية كفيلة بصناعة الهيمنة والقوة الإيرانيتين. ندرك جيداً أننا في مرحلة «تخفيض الإنفاق» ولكن العبرة ليست بالتكلفة والشكل وإنما بالمخرجات والمضمون.
* اختلاج النبض:
نثق ثقة تامة في صانع القرار في عالمنا العربي، ولا ريب في غاياته.. ولكن المشكلة أن المرء مهما كان عالماً لابد أن يفوته شيئاً، وكلما كان شاملاً فقد فاته الكثير من التفاصيل الهامة. إن اللجوء لذوي الاختصاص والتشاور معهم من سيم الكبار، وديدن نجاحات الدول العظمى، ولا أتورع في أن أسوق «إسرائيل» مثلاً في هكذا مجال.. فليتنا نعوّل على البحث والمتخصصين.