لم يكن العراق ومن يحكمه يعرف عنه قديماً أوحديثاً أنه تآلف وتناغم مع مجاميع مسلحة خارجة عن القانون تشاركه القرار، وربما تفرض سلطتها عليه، وكان للقانون فيه سلطة ورهبة بحيث إن شرطياً واحداً كان باستطاعته أن يفرض كلمته على حي وقرية بأكملها وسلاحه لا يتجاوز العصا
واستمر هذا الحال في العهد الملكي وبعض من حكم الجمهوريات، إلى أن انعطف العراق وانزلق في حروب طاحنة أجبر معها لعسكرة المجتمع، فتحول ذلك البلد رويداً رويداًَ من الاستقرار والحياة المدنية الهادئة إلى القسوة العسكرية، ليتعسكر المجتمع وليكون رديفاً للجيش النظامي، فتشكلت قوات عديدة من الجيش الشعبي وما يعرف باسم «فدائيي صدام» وجيش النخوة، إضافة لتسليح كافة تنظيمات الجهاز الحزبي فأصبح السلاح في متناول الجميع وكان للحرب العراقية الإيرانية بالغ الأثر في تراجع التركيبة النفسية للفرد العراقي واستمرائه لمنظر الدم ومناظرالخراب والدمار والأشلاء
فنشأ جيل عدواني يستثيره أبسط أمر لا يستوجب الاستثارة، وبدل أن يتصدى العقلاء والباحثون لمعالجة إفرازات الحروب بدأ بعضهم يروج ويسوق بأن شخصية العراقي هي هكذا بطبعه وخلقته وأن «دمه حار» بالتوصيف العراقي، في حين أن رئيس الوزراء العراقي في العهد الملكي الراحل نوري السعيد كان قد تعرض لكثير من المهانات في مواقف مسجلة مع أبسط الناس ولم يستثر ولم ينتقم ممن أهانه أو زجه في غيابات السجن ولم يكن دمه حاراً وهو عراقي أصيل، ومدون تاريخياً عند سقوط الملكية كيف قتل ذلك الرجل ومثل بجثته وسحلت في شوارع بغداد!!
لكن للإنصاف، نقول ومع كل ذلك التراجع وإفرازات الحروب كانت للدولة هيبة، فلا يتجرأ أحد أن يبث الفوضى ويتحدى سلطة الدولة، وربما كان الرئيس السابق صدام حسين وأجهزته الأمنية شديدي القسوة والبطش لكل من تسول له نفسه بتحدي النظام والسلطة، ورغم التراجع العسكري وقدرة العراق الدفاعية لكن الدولة كانت مهابة الجانب والأجهزة الأمنية متماسكة، بحيث أن أي موكب من مواكب لجان التفتيش التابع للأمم المتحدة كان يجوب العراق بحريته من أقصى شماله في زاخو إلى أقصى جنوبه في الفاو بحماية متواضعة، ودون أن يعترضهم أحد أو تثار طلقة طائشة صوبهم، وكان البعض يلحظ أن النواب والوزراء يتنقلون بين المحافظات مع سائق وفرد واحد من الحماية وأحياناً مع سائقه فقط ويجوب بغداد في ساعات متأخرة من الليل، ولم نسمع أنه تم اغتيال الوزير الفلاني بكاتم صوت أو عبوة ناسفة مزقت جسده، بل كان ينعم بالأمن العراق كله، واستمر ذلك الحال والاستقرارالأمني الذي انعكس إيجاباً في حياة المواطنين ومصالحهم دون أن يقدروه حق قدره، ولو علموا ما كانت تخفيه لهم الأيام من غدر أمريكا وانتقام وثأر إيران وعملائها، لذلك الشعب المبتلى من خراب ودمار وتشرد وتناحر لحافظوا على ذلك النظام ولعضوا عليه بالنواجذ ولم يفرطوا فيه.
فبدت لهم اليوم بعد أن انقشع الضباب عن أعينهم أن سيئات ذلك النظام وكما صرح بعض من ساستهم كعزت الشابندر وإياد جمال الدين ومشعان الجبوري وغيرهم اليوم هي أفضل من حسنات المالكي والعبادي وبطانتهم وسراق المنطقة الخضراء الذين جعلوا من العراق أكثر دولة في العالم إجراماً وقذارة وفقراً وجهلاً!!
فما كان ينغص على العراقيين عيشهم في حينها ويقض مضاجعهم الحالة المأساوية التي كانوا يقاسونها بسبب الحصار الظالم الذي أتى أكله في تأليب الكثير من طبقات الشعب ضد النظام الذي أوصلهم إلى مرحلة من القنوط، وخصوصاً انهيار الطبقة الوسطى مما أدى إلى انهيارها «والتي يجب على جميع الحكومات أخذ العبرة والدرس من التجربة العراقية والمحافظة على الطبقة الوسطى في جميع الظروف فهي بيضة القبان للحكومات والاستقرارالمجتمعي فبانهيارها ينهار المجتمع وتنهار الأنظمة»، والتي لم يعد باستطاعتها تحمل ضغط الحصار فأصبح الشعب العراقي يضم طبقتين، طبقة مختزلة من الأغنياء، وطبقة عريضة من الفقراء، التي أوصلها الفقر إلى حد الضياع والقنوط، وكنا نسمع لبعضهم من قصار النظر ومن شدة بؤسهم يدندنون ويقولون «ليحكم العراق من يحكمه حتى لو أتى شارون بس خلصونا من صدام». وللحديث بقية.