لم تنحصر أزمة الخطاب الديني المعاصر في مجرد انفصاله عن الواقع وما يفرضه ذلك من اختلالات وانتكاسات مستمرة، ولكن الأزمة الأكبر كانت في تناسل أنماط متشاكسه من «الخطابات» الفرعية المتنافرة التي يدعو معظمها إلى التنافس السلبي والتناحر والاقتتال الداخلي في نأي واضح عن روح الدين السمحة وغاياته السامية ومقاصده الإنسانية والإلهية، فبينما يجزم كل طرف أن مرجعيته هي النصوص الثابتة في الكتاب والسنة فإن ضعف هذا الادعاء لا يلبث أن يظهر حين يتبدى الجهل بعلوم القرآن وأصول الفقه وعلوم اللغة والوعي الاجتماعي والثقافي والحضاري، وها هي الحقبة الأخيرة تخرج علينا زمراً تعتسف النصوص وتفسرها تبعاً لهواها ولمقتضى مصالحها، وقد تسيد من هؤلاء فتيان متحمسون أو مجيرون مشهد الدعوة والدعاية الدينية، يكفرون الناس، وينبذون المجتمع ويجهلونه، ولا يذكرون من أي القرآن اإلا ما كان من أخبار جهنم أو انتقام جبار السموات والأرض من دون أن يكون في كلمهم شيء من رحمته أو بعض من عفوه أو غفرانه.
لقد جاوز هؤلاء في خطاب التشدد غلو خطاب الخوارج قبل قرون خلت من دون أن يكون لديهم وعي بفحوى المفاهيم «كمنطوق اللفظ ومفهومه»، أو مفهوم الموافقة والمخالفة، أو مفهوم الصفة والشرط، أو الاستثناء والغاية والعدد، أو معرفة الكيفية التي يتم بها الاستدلال بخطاب الشرع أو نصب الدليل الشرعي، أو التوصيف الحكمي للأوامر والنواهي – اذ ليس كل أمر أو نهي يؤخذ على إطلاقه – ولكن كل أمر ونهي له توجيهه، إلى جانب أن هناك ما يعرف بالتوصيف العام للأحكام الشرعية، ومنها ما هو من «الرخص» ومنها ماهو من «العزائم» وغير ذلك من «الواجب» و»مقدمات الواجب». «عبدالحي عبدالعال، 2016»
ولا ينظر هؤلاء من الحديث الشريف إلى ما هو منه للتشريع، أو ما هو منه من الطبيعة البشرية للرسول صلى الله عليه وسلم، أو ما هو منه خاص بحادثة معينة – مكاناً وشخصاً – كحادثة «تأبير النخل» فأدى ذلك إلى ضياع الفهم السليم، وتسيد الفهم السقيم، وأصبح كثير من حدثاء السن والتدين يقدمون في جرأة على الفتوى تبعاً لتأويلهم للنصوص اعتماداً على فقه قليل أو جبلة خشنة، فانحرفوا بالخطاب عن جوهر الدين، وتجاوزوا مبدأ الحفاظ على الكليات الخمس التي هي مقاصد الشريعة الغراء وهي «حفظ الدين» و»حفظ النفس» و»حفظ النسل والعرض» و»حفظ العقل» و»حفظ المال».
إن هواتفنا النقالة ومواقع التواصل الإلكتروني الحديثة وغيرها من منصات الاتصال المعاصرة تدفع إلينا – صباح مساء – بعشرات الرسائل «المتشدده» التي تدلل على جهل واضح بعلوم القرآن من حيث التفسير وأسباب النزول وغيرها مما يدفع إلى النفور من الملة، ويثير في النفوس الخوف والإرهاب، ومن ذلك على سبيل المثال ما تم تداوله مؤخراً من حديث «جئتكم بالذبح» و»إنما جعل رزقي تحت ظل رمحي»، فطبيعي لأي سامع لنص كهذا مجتزأ من سياقه وظرف حدوثه أن يتخيل إننا أمام دين «دموي» يتخذ من السيف والرمح سبيلاً للإكراه على اعتناقه، وهذا يتعارض كلياً بل يتناقض مع أصول الإسلام الثابتة من نصوص القرآن والسنة، فالله تعالى يقول «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» ونهى النبي صلي الله عليه وسلم عن قتل المنافق بقوله «حتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه»، كما نهى رسول الله صلي الله عليه وسلم عن «الغيلة»، وهناك أمثلة كثيرة أخرى، ولو كان ماقاله هؤلاء – أو بعضه – حقاً لما وصل إلينا هذا الدين وللفظه الناس منذ أربعة عشر قرناً ولطارده الناس في مشارق الأرض ومغاربها حتى استأصلوا شأفته، وما ظل حياً يعتنقه الناس حتى اليوم حتى اقترب من المليارين من البشر، يتبع.