«1»
لم تتجاوز عدد لقاءاتنا بها أكثر من الخمسة، مواطنة فلسطينية تعمل في البحرين سألناها: مع من تقيمين هنا؟ فأجابت: لوحدي! أمي وأبي مقيمان في دولة عربية وأشقائي منهم من يعيش بإحدى الدول الأوروبية مهاجراً، ومنهم من يدرس بالجامعة في بلد عربي آخر! لم تمر عليها سنتان حتى اكتشفنا أنها غادرت لدولة عربية أخرى قد حصلت فيها على عرض وظيفي أفضل!
تأملنا حالها.. فتاة شابة تعيش لوحدها وقد تتعرض لأي مخاطر، وهي تنتقل من بلد لآخر في سبيل العمل وتأمين الحياة، بالتأكيد لا يوجد شيء مضمون بمعنى أنه لا يوجد عمل أو سكن دائم أو راتب تقاعدي أو أي مزايا أخرى، هي محرومة من مشاهدة عائلتها يومياً أو معرفة تفاصيل حياتهم. الوطن هو أغلى ما تملك، هو المنزل الذي يجمعك بأفراد عائلتك فإن ضاع تشتت الأهل، نعمة الأرض لا تقدر بثمن، المغتربون والمهاجرون لا يلتقون ببعضهم إلا في الإجازات الرسمية وعليهم تحمل مشقات السفر وطول المسافة، هذا إن تناسب موعد إجازاتهم مع نظام الدولة التي يقيمون فيها وقد تمر سنين طويلة لا يلتقون.. قد تمر سنين طويلة على هذه الفتاة وغيرها لا ترى والديها ولا تعلم عن حال أشقائها شيئاً! فهل من متأمل؟
«2»
يعد بحراً في مجاله الإعلامي والصحافي.. يحمل فكراً عبقرياً يعود لعائلة جميع أفرادها لهم إنجازات كبيرة في هذا المجال.. ذات يوم كان يتحدث عن جغرافيا وطبيعة وطنه لبنان.. تحدث كثيراً عنها وكان واضحاً أنه يحن للعودة إليها.. قال جملة أثرت فينا: الإنسان عندما يكبر ويمر عليه الزمن يحن للعودة إلى دياره، للعيش في الأماكن التي تحتفظ بذكريات طفولته ومراحل شبابه. تحدث عن كيف دمرت الحروب الأهلية بنية بلده، والانقسامات الحاصلة والصراعات.
«3»
هو من أرض علماء وعباقرة العرب «العراق».. من بغداد الجميلة.. سألناه عن «عراق الأمن والاستقرار سابقاً»، وراح يخبرنا كيف كان العراق في ذلك الزمن الجميل متفوقاً على الدول العربية من ناحية التطور وكيف كان شعبه مثقفاً لا جاهلاً كما يدعي البعض.. يقول: قد يندهش البعض وهو يرى إنساناً بسيطاً لدينا يعرف عن أمور التكنولوجيا والصناعات الحربية في زمن لاتزال الدول العربية لم تعرف هذه المجالات بعد! تطفلنا وسألناه عن منزله وإن كان لايزال موجوداً فأخبرنا بجواب قاتل: لا أعلم عنه شيئاً غير أنني سألت أحد جيراني وقال إن هناك من جاء ليسكنه بعد أن كسر الباب وأخذ المنزل وأصبح يتملكه!
عراق الحضارة تحول إلى أرض دموية اليوم للأسف يقتل المرء فيها بناء على اعتبارات طائفية وسياسية.. هناك من استغل الوضع الأمني فيها بإثارة الضغائن والبلبلة الطائفية حتى وصلت اليوم إلى ما وصلت عليه من فتن وصراعات دموية بين طوائفها المتعددة، كثيرون اضطروا لمغادرة منازلهم وتركها كما هي والارتماء في أحضان الهجرة والمصير المجهول!
راح الفكر يتأمل هذا المشهد ويستحضر كلمات من نوع «الأزمة الأمنية أريد فيها تحويل البحرين إلى عراق وسوريا أخرى».. هل بإمكاننا يوماً أن نتحمل كل هذا الألم؟ أن تصحو يوماً فتجد وطنك بيد أعدائه وحتى أبسط ما تمتلكه في وطنك مسكنك قد جاء «غازي» أو عميل أو خائن وأخذه واستملكه وأخذ ينعم به وبكل ما فيه؟ هل يتخيل البعض وهو يزرع الفتن ويحشد الناس والطوائف المتعددة أن هذه النار التي يشعلها لن تنطفئ أبداً بعدها، حتى وإن زينت له أوهامه أو الدول التي تجنده لفعل ذلك إن بإمكانه السيطرة عليها؟
«4»
اسمه إيلاف.. شاب عراقي أصيل.. شاءت الصدف أن نعمل معه في أحد الأندية الطلابية بالجامعة.. طيلة دراسته كان يتبين من تصرفاته ومواقفه ما يعكس معادن أهل العراق وطيبتهم.. اضطر والده أن يرحل إلى دولة خليجية أخرى للعمل فيها بعد أن أنهى عمله الأكاديمي في البحرين.. وجد إيلاف نفسه مضطراً للرحيل هو الآخر فعاد إلى العراق.. انقطع تواصل إيلاف ولا نعلم اليوم بأي حال هو، ونسأل الله أن يحفظه ويبقيه سالماً بعيداً عن أذى المجرمين. العراقي اليوم ليس بيده خيارات كثيرة فأما أن يرحل مغترباً مهاجراً إلى دول أخرى بعد أن يحصل بشق الأنفس على إقامة «فيزا» أو أن يعود إلى الموت الذي ينتظره.. الموت الذي قد يداهمه في أي وقت وأي مكان!! لم يعد العراق مكاناً آمناً لأهله بعد الغزو الأمريكي وإسقاط نظامه ولاتزال تعاني تلك الأرض الجريحة..
* إحساس عابر:
إلى من يتذمر طيلة الوقت ويتحدث عن مساوئ وطنه للآخرين ويهدم كل الإنجازات ويتبنى الأفكار المعادية لنظام وطنه أو تلك التي تحمل أجندة خارجية وينسى أن يقول «الحمد لله لأن الله حفظ وطننا رغم حجم المؤامرات الدولية التي مرت وسخر لنا قيادة حكيمة تدير دفة الأمور»، وأن الدعاء للوطن وولي الأمر من أحد واجبات الدين.