حدثني بمرارة عن وطنه: خسر ترقيته التي يستحقها لصالح قريب أحد المتنفذين الذي لا تنطبق عليه أدنى معايير الترقية.
وحين اشتد احتجاجه ورفضه «لفقه» الواسطة الذي بدأ يصير مذهباً رسمياً للدولة، قيل له: احمد ربك على نعمة الأمن والأمان، ولا تسهم في نشر الفوضى والبلبة فتصير البلد مثل العراق.
ذكرني محدثي بإحداهن حين كنت أنتقد تغلب التيارات الإسلامية واستيلاءها على مقاليد الحكم في بلدان الثورات الربيعية وكيف مهد هذا لظهور «الدواعش» وقطع الرؤوس فكانت تقول لي: لا تتصلبي في النقد في اتجاه واحد، ففي إيران تعلق مشانق السنة في الشوارع لمجرد كونهم سنة!!
في الماضي ارتبطت فكرة الوطن بالوطنية، بحب الأرض والتغني بالتاريخ وبصور الأطفال في مدارسهم وكيف يصيرون معلمين وأطباء ومهندسين.
في الماضي ارتبط الوطن بقيم العدالة والمحبة والانتماء القومي وبأحلام البناء والمستقبل المشرق.
واليوم صار الوطن يرتبط بفكرة «المقارنات المرعبة».
فإما أن تعيش مقهوراً لالتهام حقوقك من قبل فئة متنفذة تنتمي لها عرقياً أو إيديولوجياً، أو أن تعيش مقهوراً لالتهام حقك من قبل فئة أخرى لا تنتمي لها عرقياً أو إيديولوجياً.
وإما أن تموت مقطوع الرأس أو أن تموت مشنوقاً في شارع عام!! وفي كلتا الحالتين، وبصريح العبارة البرغماتية: لن ينفعك الوطن!!
وتذكرني فوضى مفهوم الوطنية بحرب الأفكار التي اشتدت في الوطن العربي في ثمانينات القرن الماضي تحديداً.
حيث تم محاربة كل الأفكار والتوجهات بفكرة مقاومة «الإيديولوجيا والدوغمائية». فحين تنتقد اتساع الفوارق الطبقية ونشوء طبقات ثقافية جديدة سوف تتهم بأنك إيديولوجي وحين تعلن انحيازك للعروبة والانتماء القومي فسوف تصادر أفكارك لأنها إيديولوجية.
وحين تثبت على قناعاتك باعتبارها مبادئ فقد صرت متخلفاً لأنك دوغمائي تتحول آراؤك إلى عقيدة راسخة في ذهنك!! ما المطلوب إذن؟ المطلوب ألا تتبنى شيئاً ولا تتمسك بمبدأ كي لا تتقولب. وأن تتحرر من كل انتماء وانحياز كي لا تتأدلج.
وكان ذلك طريقاً سريعاً للإفلاس العربي.
وهذا ما حصل بالفعل. دخل العرب القرن الحادي والعشرين وهم مفلسون فكرياً ومجردون من المبادئ والثوابت، وكانوا سعداء بوهمهم أنهم قد صاروا متحررين فكراً وانتماء.
وحين تفلس فكرة الوطن والوطنية من نفع المواطن وخدمة الشعب ويصبح الوطن أداة بيد مجموعة من المتنفذين والمنتفعين. وحين يصبح الوطن مجرد حظيرة تحمينا من ذئاب الخارج وتقارن بباقي الحظائر المجاورة المهترئة، سوف يتحول الوطن إلى صنم.
وليس مصير أي صنم إلا الكسر. لذلك نشأت في بعض الدول معارضات «الفنادق» التي تنتقل من عاصمة غربية إلى أخرى للتفاهم مع القوى الكبرى حول مصير وطنها وكيفية شن الحروب عليه. ولذلك صار بعض رموز المعارضات العربية يروج نفسه «قرضاي عربي» يقبل بأن ينصبه الغرب حاكماً على وطنه. ولذلك صارت فكرة الهجرة للدول الغربية تحديداً رائجة بين الشباب العربي. فهناك ترتبط فكرة الوطنية بالوطن والمواطنة وبقيم العدالة والمساواة وبالإنتاج والإنجاز. هناك حيث ينحاز الوطن للمواطن وليس العكس!