سأحدثكم اليوم بقلب مفتوح عن الفنان الحقيقي المثقف المهموم بقضايا الأمة، الذي لا يقدم إلا أعمالاً مشغولة بعناية وعناء، لتنفع جمهوره العربي، ولا تخدعهم بآمال زائفة..
سأحدثكم بروح محلقة ونفس لا تشوبها شوائب عن الشرف والإخلاص والتعفف عن المكاسب الرخيصة في شخص فنان عشقناه منذ الصغر وأعجبنا به، لأننا وجدناه مثقفاً زاهداً في ما عند السلطان..
سأحدثكم عن تاريخ إنسان في هذا الوجود الصعب، اسمه دريد لحام، كان همه أن يوعينا كشعوب، ويقدم ما يعمر عقولنا ويؤنس قلوبنا ويعصف وجداننا، ويدفعنا للتمرد على ديكتاتورية الأنظمة العربية البالية المتآمرة على حقوق الشعوب..
نعم، نحن جيل ذهب إلى «الحدود» ليتضامن مع سائق التاكسي «عبدالودود».. نعم، نحن جيل بكي مع «غوار» حين باع أولاده وتجرعنا معه منذ 37 عاماً ألماً وحسرة، «كاسك يا وطن»..
في أحد مشاهد هذا العمل المبدع والجميل ظهر «غوار» وهو في حالة سكر شديد، متوهماً أنه يتحدث مع والده الشهيد في الجنة - حسب نص المسرحية طبعاً - فيدور حوار بين الاثنين، يسأل الأب ابنه عن الحال والأحوال فيجيب الابن بسخرية واضحة وإسقاط سياسي مؤلم وحزين:
غوار: ألو نعم.
الأب الشهيد: أنا المرحوم أبوك.
غوار: منين عم تحكي يا أبي.
الأب الشهيد: الشهيد وين بيكون؟
غوار: والله ما بعرف يا أبي شني ما استشهدت ولا مرة لسه.
الأب الشهيد: من الجنة يا ولدي الله يطعمك إياها.
غوار: والسامعين، يا أبي أنت ليش استشهدت لك شو بدك بهالصرعة ؟
الأب الشهيد: منشان الوطن، شو نسيت؟
غوار: والله راح عن بالي الوطن يا أبي.. حلوة الجنة يا أبي؟
الأب الشهيد: ما في متل الجنة بس حتى الجنة ما بتغني عن الوطن يا ولدي، طمني شو صار فيكم؟ شو صار بالأشيا يلي استشهدنا من شانها؟
غوار: اطمن يا أبي الحمد لله دمكم ما راح هدر أبداً.
الأب الشهيد: الله يطمنك بالخير، بس بدي منك أجوبة محددة.
غوار: تكرم جروحاتك يا أبي اسأل.
الأب الشهيد: شو أخبار الوحدة العربية؟
غوار: أوووو ما عدنا حكينا فيها.
الأب الشهيد: يعني صرتو بلد وحدة؟
غوار: لكان أنا اليوم فطرت ببغداد وتغديت بالخرطوم وعم أحكي معك من أبو ظبي.
الأب الشهيد: قصدك ما ضلّ حدود؟
غوار: ع الخريطة بس.
الأب الشهيد: والحرية؟
غوار: بتبوس أيدك.
الأب الشهيد: يعني ما صفي «بقي» سجون.
غوار: للمجرمين فقط يا أبي.
«ويسترسل الأب الشهيد في طرح الأسئلة على الابن ظناً منه أنه يقول الحقيقة، فيدور حوار بينهم يلامس الجروح حتي يفتقه فتقاً».
الأب الشهيد: لك يا ولدي في شغلة بدي اسألك عنها ومستحي بعد هالسنين الطويلة.
غوار: لا يا أبي لا تستحي اسأل.
الأب الشهيد: فلسطين، أكيد رجعتوها لأهلها؟
غوار: معك حق تستحي، هاد سؤال بينسئل بعد 30 سنة نضال؟!
الأب الشهيد: غوار: برافوو عليكم.
الأب الشهيد: خلاصتو يعني مو ناقصكم شي؟
غوار: أبداً، مو ناقصنا شيء الله وكيلك يا أبي مو ناقصنا إلا شوية كرامة بس.
الأب الشهيد: لكااان كل شي خبرتني عنه كذب؟
غوار: أيه كله خرط بخرط، أحمد الله اللي طلعلك قبر بهالوطن نقرأ لك عليه الفاتحة بس، اليمن صارت يمنين ولبنان أربعة والخير لقدام.
الأب الشهيد: وليش هيك؟
غوار: قال لحتى تصير أصواتنا كتيرة بهيئة الأمم المتحدة.. وإسرائيل صارت قطر شقيق يا أبي.
الأب الشهيد: وأمك الصابرة شو صار فيها؟
غوار: عم تشتغل غسالة أوتوماتيك.
الأب الشهيد: وولادك؟
غوار: بعتهم.
الأب الشهيد: ؟؟
حوار بالفعل يشخص الحالة العربية وحقيقة دريد لحام.. كنا نحسبه فنان حقيقي مثقف وشريف.. حسبناه كذلك.. والله لم نكن نحسب أن يأتي بعد 37 عاماً فيبيع بالفعل أبناءه، أبناء سوريا، بثمن بخس وبضعة «تومانات» لصالح ولي فقيه الشبيحة، قاتل الشعب السوري من الوريد إلى الوريد..
سقط دريد لحام وظل الشبيح «غوار»، تماماً كما رحل ناجي العربي وظل «حنظلة»، لكن شتان بين الاثنين، فـ «حنظلة» سيظل يبعث فينا الأمل، أما «غوار» فسيظل يذكرنا بأن كل تاريخه المسرحي الطويل لم يكن أكثر من مسرحية للزيف والارتزاق..
الله لا يوفقكم في شي ما بعتوه بعد؟