بالأمس كنت أستمع لبرنامج إذاعي مشوق تبثه الـ «بي بي سي»، يسلط الضوء على نظرة شرائح مختلفة في المجتمعين البريطاني والأمريكي تجاه الأمن ومؤسساته.
هناك رصد لشريحة لا يستهان بها نسبياً في تلك المجتمعات ترى أن المؤسسات الأمنية باتت تفرض قيوداً أكثر من السابق، وأن نسبة الحريات المعنية بحرية التعبير والمظاهرات والحركات الاحتجاجية تراجعت عما كانت عليه سابقاً، الأمر الذي رأت فيه مؤشراً سلبياً في تلك المجتمعات التي تتغنى بارتفاع سقوف الحريات والعمل السياسي.
لكن على الجانب الآخر كان هناك رأي أصحابه يفوقون في نسبتهم أصحاب الرأي الأول، يركز في أن المؤسسات الأمنية والقوانين المعنية بها ضرورة في أي مجتمع، وذلك لضمان استقراره وحفاظاً على حقوق المواطنين والمقيمين فيه، باختلاف تبايناتهم الفكرية وأعراقهم وتوجهاتهم السياسية.
بالنسبة إليهم، الأمن يعد أحد أهم الركائز التي يقوم عليها المجتمع، وبدونه فإن هناك ضياعاً مؤكداً لحقوق الأفراد، وإشاعة لأجواء الفوضى، وإباحة للقفز على القانون وتجاوزه، ما يعني في مسألة أخطر، منح مساحة للجماعات بأن تشكل قوانينها بحسب ما تراه وبما يخدمها، وبالتأكيد سيتقاطع سلباً مع المكونات الأخرى.
الدول من حقها بسط الأمن وفرض القوانين المنظمة له وتطبيقه بشكله الخالص دون الإخلال به، خاصة وأننا نعيش مرحلة في ظل وجود القوانين الصارمة حتى نادراً ما تكون المجتمعات في أي مكان بمعزل عن الانفلات والفوضى، والأخطر ما يتمثل بسوء تفسير مفاهيم الحرية.
في بريطانيا هناك قوانين واضحة لممارسة العمل السياسي، مكفولة وينص عليها بأنها حقوق للناس يمكنهم ممارستها بحرية، لكن طبعاً في ظل القانون والتزاماً بأعراف المؤسسات الأمنية التي هدفها الأول صون الأمن القومي وحماية الأفراد.
وكذلك الحال في الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يمكن فيها لشرطي أن يوقف شخصاً وإن كان مجرماً هارباً من العدالة، دون أن يملي عليه حقوقه التي ينص عليها الدستور، وإلا لأصبحت عملية التوقيف غير قانونية ويحق للمحكمة إخلاء سبيله لتقوم الشرطة بعدها بعملية توقيف صحيحة وفق الإطار القانوني.
ورغم ذلك فهناك حالات تسجل لمحاولات استغلال مساحات الحرية والتمثل بأدوار يطغى عليها العنف وإرهاب المجتمع، ويحصل ذلك حينما تضيع المفاهيم الرئيسة بشأن الديمقراطية والانفتاح، في مقابلها تسجل حالات لتجاوزات أمنية تصدر من أفراد بمعزل عن «سياسة ممنهجة»، وهنا القانون يأخذ مجراه بحق رجال الأمن أنفسهم، باعتبار أن هناك سوء استغلال للسلطة.
لتركيب هذا الواقع العالمي على واقعنا المحلي، يتضح أن البحرين تمضي في نفس السياق الذي تمضي عليه الدول المتقدمة علينا ديمقراطياً وتفوقنا تجربتها بعشرات السنين وبعضها عقود، لكن الفارق أن المؤسسات الأمنية في البحرين عبر تنوعها واختلاف مهامها قدمت نموذجاً متقدماً لكيفية حفظ الأمن القومي للبلاد بنسق متواز مع حفظ حقوق حتى المخلين بالأمن ومتجاوزي القانون، في أسلوب يتماشى مع أعراف حقوق الإنسان، وهي المسألة التي يحاول عمداً إغفالها من يتحركون ضد المؤسسات الأمنية في البحرين ويسعون لتقليص صلاحياتها.
تلك الفئات هي التي تدعي بسلمية حراكها، لكن الممارسات تكشف بوضوح تكريس هذا الحراك للعنف، وإباحته للفوضى، وتحريضه على تجاوز القوانين وممارسة الإرهاب بما يهدد حياة البشر ويقلق أمن البلاد.
قائد الحركة الثورية ضد العنصرية في الولايات المتحدة مارتن لوثر كينج ذهب إلى الهند في خمسينيات القرن الماضي ليطلع على تجربة المهاتما غاندي في شأن الحراك السلمي، والإضراب والمظاهرات النابذة للعنف، ونجح في تطبيق نموذج مشابه تعرض من خلاله للصدام مع داعية آخر محارب للعنصرية وأعني به مالكوم إكس والذي قال إن السود عليهم أخذ حقوقهم ولو اقتضت منهم المسألة انتهاج أي أسلوب مهما كان.
لذا، تقوية المؤسسات الأمنية ومنحها الصلاحيات في إطار القانون وتوفير الدعم لها باختلاف أنواعه، مسألة تدخل في إطار تعزيز الدولة نفسها، فلا بلد يستمر دون أمن، ولا مجتمع ينمو دون أن يكون للقانون كلمة عليا، وها هو العراق أمامكم أبلغ مثال.
لذا فإن المنادين بتقليص صلاحيات المؤسسات الأمنية هدفهم واضح جداً، حيث سعيهم لإضعاف تلك المؤسسات وتحجيمها عن القيام بدورها في الحفاظ على الوطن والتصدي لكل ما يستهدفه ومحاسبة من يستهدفه.
لا دولة تقوم بلا أمن، ولا حرية تعبير حقيقة تلك التي تمارس من قبل قوى راديكالية ثيوقراطية. الأمن يحفظ البلاد والعباد، أما الآخرون فهم أساس خراب كل شيء.