مهما كانت قيمتك في الدنيا، بين أهلك، أو جماعتك، أو مجتمعك، مهما كان مركزك الاجتماعي ومنصبك، وقوتك ومالك وجاهك، فأنت مهما فعلت، ستظل محتاجاً إلى القوة الكبرى، مركز كل القوى في الأرض والسماء، تحتاج إلى الواحد الأحد، في كل يوم من حياتك، بل مع كل تنفس ذرة هواء.
قبل فترة قصيرة، قرأت حكاية جميلة، على الجميع أن يتوقف عندها، لأنها تمثل في نظري المعنى الحقيقي للتواضع لله، التواضع المفتوح على الخيرات، التواضع الذي يمثل قمة الحقيقة لمعنى أن يكون الإنسان إنساناً، تقول الحكاية:
صديق من سكان مكة شرفها الله، صلى يوماً بالحرم وبعد الصلاة والذكر أراد أن يتصدق على أحد عمال التنظيف بالحرم وكان الأخير «هندي» عمره بالخمسين، فأخرج له ريالات وقال له: تفضل صديق، فنظر الصديق الهندي لصاحبنا وابتسم،
وقال له: انظر إلى محفظتي فإذا هي مليئة بكروت «الفيزا» و»المستر كارد»، وقال له شكراً، لا أحتاج للصدقة.
فقال صاحبنا للهندي: عجباً من أنت وماذا تعمل هنا، «ايييش سالفتك»، قال الهندي لصاحبنا: أنا بفضل الله أملك مجموعة من الفنادق في أنحاء الهند، وبين فترة وأخرى أطلب فيزا عمل مع الشركة المختصة في تنظيف الحرم، فأخصص ستة شهور أعمل بها لله، بدون مقابل، الليل مع النهار، لخدمة بيت الله الحرام، سائلاً المولى عز وجل أن يتقبل عملي خالصاً لوجهه الكريم، صُعق صاحبنا وهو يقول: كأنني في حلم، وازداد فضوله وسأل أحد العمال وقال أتعرف من ذاك؟ فقال له إن فلاناً مهراجا «ملتي مليونير»، يأتي لخدمة بيت الله الحرام، بين فترة وأخرى لفترة ستة شهور.
إن هذه القصة الواقعية التي تحدث أمامنا الآن وهنا، لهي صورة طبيعية، دون أن يلاحظها الراكضون وراء الالتزامات اليومية، واللاهثون وراء ما يشبع البطون، دون الالتفات إلى ما يمكن أن يشبع القلوب.
إن مثل هذا الإنسان الإنسان، الإنسان النقي التقي، يمثل خير تمثيل، طبيعة الإنسان المؤمن إيماناً حقيقياً، يمثل الإنسان المدرك أن كل ما يأتي إلينا هو من الله سبحانه وتعالى، وما جعل المال والمنصب والمجد والشهرة، إلا من أجل التأكيد على الإنسان المالك، فما هو إلا قناة من أجل تحريك المال خلالها، لتصل إلى المحتاجين، وما حياته إلا أيام معدودة، سوف يتركها ليعود إلى بيته الأول.
هل نعي أن القيام بأدوارنا بين الحياة والموت هي النعمة الحقيقية من خلقنا على هذا الكوكب؟ هل نعي أن المجد والشهرة، ليست إلا ترهات أمام تواضعنا الفطري لعبادة الله على أفضل ما يمكن أن نقوم به؟
من تواضع لله رفعه، ومن شكره ليلاً ونهاراً، أعطاه الرزق من حيث لا يحتسب، أيها الإنسان الفاني تواضع للخالد.