الحكمة ليست كلاماً عادياً منظوماً أو منثوراً، بقدر ما هي خلاصة تجربة حياتية عاشها قائلها، مارسها بكل ما فيها، تواصل مع قوتها في الزمان والمكان، وأنت أحياناً تذهب بعيداً كي تجدها، وستجدها.
وقد أكد العارفون أن الحكمة علم يبحث في حقائق الأشياء على ما هي عليه في الوجود بقدر الطاقة البشرية، فهي علم نظري غير آلي. والحكمة أيضاً هي هيئة القوة العقلية العلمية المتوسطة بين الغريزة التي هي إفراط هذه القوة، والبلادة التي هي تفريطها. وتجيء على ثلاثة معانٍ، الأول الإيجاد، والثاني العلم، والثالث الأفعال المثلثة، كالشمس والقمر وغيرهما، فإننا نقول إن الحكمة لا يمكن أن تأتي إلا عبر الممارسة اليومية، كالصلاة تماماً، كالحب، كالنوم، كالفرح، ككل شيء لا يمكن أن تقوم بها بصورة فردية، خاصة بك وحدك.
أما الحكيم، كما يقول العارفون، فهو شخصٌ عاقل يرجح الأمور نحو الصواب بما امتلكه من خبرات عبر تجاربه في الحياة. وقد شهد تاريخ الإنسانية العديد من الحكماء العرب وغير العرب، وتعتبر الحكمة جزءاً من التقاليد والعادات التي يجب أن يراعيها الإنسان أثناء تأدية أعماله اليومية بغض النظر عن الدين والعرق والقومية. حيث عرف بعضهم أن الحكمة عمل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي أي بما معناه وضع الأمور في نصابها، حيث هناك حكم صلحت للتطبيق لمختلف العصور، فكانت عميقة المعنى، وبعض منها ما لا يصلح إلا لزمن من الأزمنة، فتكون سطحية المعنى وقد تأتي الحكمة في النثر والشعر.
قبل عدة أيام قرأت إحدى القصص التي تتكلم عن كيفية الحصول على الحكمة، بالعقل أو بالقلب، تقول القصة: أراد عنكبوت أن يصير أحكم الحيوانات والحشرات والطيور، فحمل صندوقاً وانطلق به إلى كل بلد في العالم، كلما سمع كلمات حكمة وضعها في الصندوق فظن العنكبوت أنه قد صار أحكم من غيره. وعند عودته إلى بلده رأى بركة صغيرة، قال: أميل وأشرب منها فإني عطشان، تطلع إلى الماء ليشرب فرأى كمية ضخمة من الموز الناضج الأصفر ففرح جداً، وقال: إنني لست فقط أشرب وإنما وجدت موزاً طازجاً لكي آكل وأشبع. حاول أن يتسلل إلى الماء فلم يجد شيئًا، تكرر الأمر مرة ومرات وأخيراً قرر أن يلقي هذا الصندوق الثقيل من على كتفيه الذي أحنى رأسه، فلما ألقاه استطاع أن يرى شجرة موز على شاطئ البركة وقد تسلق عليها قرد، وكان يضحك. سأل العنكبوت القرد: لماذا تضحك؟ أجاب القرد: لأن صندوق الحكمة قد أحنى ظهرك فلم تعد ترى ما هو فوقك، بل تتطلع إلى أسفل، فترى انعكاس شجرة الموز على المياه، الآن إن أردت أن تأكل تعال على الشجرة وذق بنفسك الموز.
هز العنكبوت رأسه وقال: حقًا إن الحكمة لا تقتني بجمع كلمات الآخرين التي تصير ثقلًا على الظهر، فلا يرى الإنسان ما هو فوقه، بل أن يذوق ويختبر بنفسه الحكمة، فالحكمة حياة معاشة لا كلمات.
ما يمكن أن تعطينا خلاصة هذه القصة هو ضرورة أن يواصل الإنسان المرور بتجارب، منها الصعب ومنها السهل، ولكن كل هذه التجارب لابد من مرورها من مرشح الممارسة.
ربما تتعب وأنت تبحث عن الحكمة، ولكن ثق أنك ستجدها، فما دمت تبحث عنها، هي الأخرى ستبحث عنك.