في سنوات طفولتنا الأولى علمونا أن الوحدة قوة والفرقة ضعف، ولقنونا قصة الرجل الذي دعا أبناءه لجمع العصي في حزمة غليظة ومحاولة كسرها من قبل كل منهم منفرداً، ففشلوا في ذلك، ولم ينجحوا إلاَّ باتحادهم. ما أجمل القصص المطروحة في مناهجنا وما أنبلها، ولكن المربين نسوا أو تناسوا أن يعلمونا أدوات ذلك الاتحاد وتطبيقاته العملية، وفي الوقت الذي كانت تلك المبادئ الجميلة حبيسة المناهج وأقاصيص الأطفال، كبرنا على أصوات منابر منادية بالفرقة ليل نهار، تحت كثير من التصنيفات والأسماء التي ربما لم نكن نفهمها آنذاك لحداثة سننا، لكننا كبرنا، وتعلمنا معنى أن أكون أبيض والآخر أسود، ومعنى أن أكون من عرق وأصول عربية والآخر لا، ومعنى أن أكون سنياً والآخر شيعياً، ومعنى أن يكون لي انتماء تضيق معه الحلقة في كل مرة نحاول فيها أن نعرّف أنفسنا على وجه الدقة. وفي ظل عالم يموج بالصراعات والتحديات اكتشفنا أننا نشأنا على ثقافة الغيرية في إعلاء لما ننتمي إليه وحدنا، وبهذا كنا – بوعي أو بدونه - شركاء في صناعة «نبذ ثقافة الاختلاف».
يدعوني هذا للاستئناس بدراسة بحثية أصدرها معهد البحرين للتنمية السياسية قبل نحو شهر، عنوانها «الصحافة العربية وثقافة الاختلاف»، للدكتور زهير حسين ضيف، أستاذ الصحافة والإعلام المشارك بالجامعة الأهلية بالبحرين. جاءت الدراسة للوقوف على ضرورة البحث في ثقافة الاختلاف ودورها في إعمار البُنى الفكرية والنفسية للمواطن العربي، في ظل الانقسام الذي حفر خنادقه وعمقها، عصاب العالم الجماعي، والمفاهيم والأفكار الخاطئة التي كونها حول «الاختلاف، الهوية، الطائفية، الصراع الحضاري، الإرهاب، نهاية التاريخ»، التي تسود المجتمع العربي في المرحلة الراهنة، وأصبحت بمثابة الأيقونات التي يتمسك بها الكاتب، في سبيل شرعنة حضوره، وتعزيز أهميته على الساحة الفكرية والكتابية - كما أشار الباحث - في تساؤلاته حول قيمة ما كُتب، وأهميته، وجدواه، ورصانته، وموضوعيته، وجديته.
وقدم البحث نتائج جديرة بالمناقشة والوقوف عليها لوضع الحلول الملائمة للتصدي لمعوقات التمتع بثقافة الاختلاف، وأوجز هنا بعض النتائج، إذ جاءت موضوعات «ثقافة الحوار»، بنسبة 20.1%، ثم «ثقافة التعايش» بنسبة 18.4%، ثم «التنوع الثقافي» 13.1% لتكون تلك الفئات الثلاث في مقدمة مواضيع الاتصال الثقافية التي تناولتها مقالات الرأي في مجال ثقافة الاختلاف، أما في قضايا الاتصال الاجتماعية فقد جاءت فئة «التعايش السلمي» في المقدمة بنسبة 16.8%، وتلاها «السلم والأمن الاجتماعي» 16.1%، ثم «الاختلافات» 15.0%. وتصدرت «الطائفية» بنسبة 18.1% مواضيع الاتصال الدينية، تلاها «التطرف الديني التكفيري» 16.1%، ثم «الجماعات الإسلامية» 14.3%، وفي المواضيع السياسية جاء في المقدمة موضوع «العلمانية» 3.0%، ثم «الثقافة السياسية» 4.0%.
ونظراً لما توصلت له الدراسة من نتائج، فقد تقدم الباحث بعدد من التوصيات الهامة يأتي في مقدمتها إبعاد دعاة الكراهية والعنف ورموز التحريض والفتنة عن الكتابة في الصحف العربية، وضبط وترشيد المنابر الدينية بما يجنبها الانزلاق إلى ساحة المهاترات السياسية والخلافات المذهبية.
* اختلاج النبض:
لننتقل من التلقين إلى الغرس ثم التعليم، ولنراجع بجدية أطروحات كافة المنابر، ولنولي البحث العلمي أهمية أكبر، إذا ما أردنا أن نرتقي بثقافة الاختلاف، وننعم بمجتمع متماسك، آمن، بعيداً عن النزاعات الداخلية، ودرعاً حصيناً أمام المهددات الخارجية.