الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين، نبينا محمد الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. حب الوطن قد اجتمع فيه باعث الفطرة، والدين، والعقل، فالإنسان يجد في نفسه ضرورة حب وطنه الذي نشأ فيه، والذي منحه الأمن والاستقرار، وأخذ منه أنواعاً من النعم، من أعظمها إقامة الدين، والصحة في البدن، وحيازة أنواع الخيرات الدنيوية. ولكن للأسف يوجد طرح لدى بعض الشذاذ ممن انتكست فطرهم مفاده أنه لا اهتمام بالوطن في الإسلام، وإنما الاهتمام بالوطن الإسلامي الكبير، أما هذا الوطن الصغير فهو مجرد أرض وتراب!
وهذه الفكرة درجت عليها أجيال في عدد من بلاد الإسلام، ونشأ عنها في التأثير اللاواعي العزلة عن المجتمع، ومنع التعامل معه بإيجابية، إذ لا فرق بين بلد وبلد، ولا فرق بين دولة ودولة، ولا فرق بين أناس وأناس. ولسان حالهم: هذه مجتمعات فاسدة، فلا تنتمي لها، فقط تعامل معها، وليكن انتماؤك إنما هو لجماعتك الخاصة!
وقد علمنا الإسلام أنه لا يمكن أن نكون مهتمين بالوطن الكبير دون أن نهتم بالوطن الصغير، فنبينا «ص» عندما هاجر إلى المدينة ولم يكن له بها ذلك التعلق الفطري، دعا ربه أن يحبب إليه هذا الوطن الجديد، كما في الصحيحين أنه «ص» كان يدعو: «اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد».
وقد غفل هؤلاء أن ضعف الانتماء للوطن يعني ضعف التأثير والإنتاج في الوطن الذي هو فيه، فمثلاً أمرنا الشرع بأمور كثيرة: أمرنا بالعلم وبث العلم، وأمرنا بالدعوة ونشر الخير بين الناس، أمرنا بالبذل والعطاء، أمرنا بالإحسان إلى الجار، وكل هذه الأوامر الشرعية، التي هي عند الله محبوبة، لا يمكن أن تكون من غير الشعور بأهمية البذل للناس، والبذل لأهل الوطن أسهل وأنفع من البذل لغيرهم.
ومن أجل ذلك ما من نبي إلا وأرسله الله جل وعلا بلسان قومه ليبين لهم، وقد ذكر القرآن الكريم لفظ «الأخوة»، عند عرض قصص الأنبياء مع أقوامهم: «وإلى عاد أخاهم هوداً»، «الأعراف: 65»، «وإلى ثمود أخاهم صالحاً»، «الأعراف: 73»، «وإلى مدين أخاهم شعيباً» «الأعراف: 85».
وهذه الأخوة ليست أخوة النسب ولا أخوة القبيلة، بل هي أخوة البلد بما تحويه من قبائل، فهم عليهم السلام كانوا إخوة لهم في وطنهم. يقول الطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى «إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون (161)»، «الشعراء: 161»، وجعل لوطاً أخاً لقومه ولم يكن من نسبهم، وإنما كان نزيلاً فيهم إذ كان قوم لوط من الكنعانيين وكان لوط عبرانياً وهو ابن أخي إبراهيم ولكنه لما استوطن بلادهم وعاشر فيهم وحالفهم وظاهرهم جعل أخاً «19/178». ولذلك كل وطن من المسلمين يحبه أهله. أعزائي القراء، وبعد هذا نجد أن غالب من اعترض على مشروعية حب الوطن والانتماء والمواطنة جاؤوا بآيات وأدلة التفضيل في تقديم الدين على الوطن، نعم هذه مسألة شرعية واضحة، لكن مسألة ألا تقدم شيئاً على شيء، لا يعني أن الأدنى ليس مشروعاً، فصلاة الفريضة خير من صلاة النافلة، لكن هذا لا يعني أن النافلة غير مطلوبة.
وإرضاؤك لوالدتك أهم من إرضائك لزوجتك عند التعارض، لكن هذا لا يعني أن إرضاء زوجتك غير مطلوب، أليس إرضاء الزوجة من مقتضيات قوله «ص» كما ثبت عند الترمذي: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي». وهذا هو الذي طبق في السنة، ولننظر إلى فعل نبينا «ص» -كما سبق الإشارة إليه- إذ هاجر من مكة لما ضايقه أهلها، وأمر الصحابة بالهجرة منها، وهو يحب مكة. ومع ذلك كله دعا «ص» ربه أن يكون حب المدينة في نفسه كحب مكة أو أشد، ودعاؤه عليه الصلاة والسلام دعاء عبادة وتشريع.
هذا ما تيسر ذكره في هذه الأعمدة، فما كان فيها من خير فمن الله وحده جل في علاه، وما كان فيه من خطأ أو زلل فمن نفسي والشيطان، ونلقاكم بإذن الله في أعمدة قادمة.
* الباحث الشرعي بإدارة الشؤون الدينية
بوزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف