دائماً تتكون الحياة في مرحلة الصمت، بعيداً عن الضجيج، بالضبط كما يتكون النور في صمت الليل، حتى يكون جاهزاً وقت الفجر، بالضبط كما تتكون حركة الأشجار في داخلها، حتى إذا جاء الموسم تكون جاهزة للعطاء دون حدود ودون انتظار الإذن بالعطاء.
بعيداً عن الكلام، تأتي صور الداخل الذي يحمل أكثر مما تحمله مجرات الكون، يحمل شموساً أكثر من شمس واحدة تطل على هذا الكوكب الأرضي، ويحمل أكثر من كل النجوم التي تتوالد في الفضاء اللانهائي.
بعيداً عن الآخرين، وتدخلاتهم التي لا يطلب منهم أحد، ينمو الجنين، حتى إذا اكتمل، خرج إلى النور، ليعيد تشكيل الحياة التي تحتاج إليه، وتحتاج إلى كل روح تساهم في جعل العالم أكثر جمالاً وسعادة وفرح وابتهاج.
في الصمت، وبالصمت تتكون كل الأشياء الرائعة التي نراها في حركة الأزهار والأنهار والمواسم وتشكيلات البشر.
ونحن كبشر، لا نرى جيداً ما خلف الحواس الخمس، نتصور أن كل ما نراه هو الصحيح، نؤكد عليه، وفي أغلب الأحيان ندافع عنه بضراوة!
وفي هذه اللحظة التي أكتب فيها، هناك العشرات من الأشخاص الذين شكلوا صوراً عن بعض أصحابهم القدماء، وظلت هذه الصورة ربما من أيام الطفولة، لا تتغير، بسبب كونهم صدقوها إلى درجة أنهم لا يريدون أن يسمعوا من الآخرين ما يمكن أن ينقض هذه الصورة ويغيرها عما تصوروه لها.
ولكن قد يأتي الوقت، ربما قبل أن يغادروا هذا العالم، بفترة قصيرة، فيعرفوا أن الصورة التي بقيت في أذهانهم لمدة طويلة، عن هذا الشخص هي صورة غير صحيحة تماماً.
ويعرفون مدى الخسارة التي عاشوها في تصورهم الناقص وفداحة الأمر الذي اقترفوه في تصورهم المشوه هذا عن أحد أصحابهم.
ولكن الوقت حينها يكون قد فات، ولا ينفع الندم على ما فات.
أقول هذا الكلام، لأنني قبل فترة قصيرة قرأت إحدى الحكايات أو القصص الواقعية والتي تحاول أن تعلمنا الكثير، من خلال القليل من الكلام، والكثير من الفعل، تقول القصة: «عاش رسام عجوز في قرية صغيرة، وكان يرسم لوحات غاية في الجمال ويبيعها بسعر جيد، وفي أحد الأيام أتاه فقير من أهل القرية وقال له: أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، لماذا لا تساعد الفقراء في القرية؟! انظر لجزار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً ومع ذلك يوزع كل يوم قطعاً من اللحم المجانية على الفقراء، لم يرد عليه الرسام وابتسم بهدوء!!
خرج الفقير منزعجاً من عند الرسام وأشاع في القرية بأن الرسام ثري ولكنه بخيل فنقم عليه أهل القرية، بعد مدة مرض الرسام العجوز ولم يعره أحد من أبناء القرية اهتماماً ومات وحيداً، ومرت الأيام ولاحظ أهل القرية أن الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحماً مجانياً، وعندما سألوه عن السبب قال إن «الرسام العجوز هو الذي كان يعطيني كل شهر مبلغاً من المال لأرسل لحماً للفقراء، ولما مات توقف ذلك بموته».
‏قد يسيء بعض الناس بك الظن، وقد يظنك آخرون أطهر من ماء الغمام، ولن ينفعك هؤلاء، ولن يضرك أولئك، المهم حقيقتك، وما يعلمه الله عنك.
ناقل القصة أرسل في نهايتها إضاءة تخبرنا إنه «لا تحكم على أحد من ظاهر ما تراه منه، فقد يكون في حياته أموراً أخرى لو علمتها لتغير حكمك عليه».