قرار مبارك ومطلوب ومهم، خاصة في هذا الزمن، زمن الفتن والفوضى، والذي فيه مع الأسف لبس بعض رجال الدين بشت السلطان، وصاروا يسبحون ويعومون في بحور العلوم، حتى العلوم الفلكية والنووية والحربية، فمرة يخرج علينا واحد منهم، كأنه الإمام ابن مالك، وآخر كأنه «جنرال عسكري»، حتى اختلطت المفاهيم عند الناس ووصلوا إلى درجة أنهم عندما يحتاجون إلى فتوى أو لسؤال رجل الدين، يترددون، هل يذهبون إلى رجل الدين هذا أو ذاك؟ بعدما اشتغل معظمهم بالسياسة، حتى منهم محفظ القرآن، والراقي، فخسروا مكانتهم بين الناس بعدما التبست عليهم أحوالهم ونواياهم، كما ضيعوا مكانة رجل الدين الذي عرف بالتقوى والورع والزهد، وهذا ما كان عليه الأولون من الصحابة والتابعين والصالحين الذين لم يستغلوا الدين لتحقيق أطماع سياسية، فلم نسمع عن رجل دين من السابقين تولى حتى منصباً سياسياً، لأنه كان هناك وقتها رجال مؤمنون وليست هناك تسمية «رجل دين» فكل يشتغل بمهنته، وإذا ما جاء وقت الشدة على مجتمعاتهم تكاتفوا جميعاً وصفوا خلف خليفتهم يحاربون أعدائهم على قلب رجل واحد، وذلك عندما خلت قلوبهم من الأطماع الدنيوية، فلم يكونوا يبحثون عن مناصب ولا مراكز.
وأما من يحتج بأنه يجب أن نكون ديمقراطيين بدرجة كبيرة، وأن آخرين يقولون إن هناك شبهة دستورية في هذا القرار، نقول لهم: أليست هذه الديمقراطية مقتبسة من أنظمة الدول الغربية؟ ثم أين هي الشبهة الدستورية في هذا القرار؟ فهل الدستور يتسع لكل هذه التفاصيل حتى وجد فيها أن هذا القرار فيه شبهة دستورية؟ ثم هل منع القرار رجل الدين من الخطابة؟ أو منع المنتمين إلى الجمعيات السياسية من ممارسة السياسة؟ أو هل يريد البعض أن تكون الديرة تمشي «سماري» لا شراع ولا مجداف؟ أو هل تريدون أن تكون البحرين كإيران والعراق؟ أو هل تريدون أن تنتج البحرين دويلات مثل دويلة «حزب الله» في لبنان؟ أليست كل تلك السلبيات من نتاج اشتغال رجال الدين بالسياسة، حتى صارت السياسة مهنتهم الأساسية على المنابر، فمنهم من يستغل الناس ويحرضهم في خطبه باسم الدين، فصار السيد المطاع، فلا يعلن جهاد إلا بأمره، ولا تشن حرب إلا بموافقته، ولا يعين مسؤول إلا بمباركته، وهكذا يتحول رجل الدين إلى «الكل في الكل»، حتى يغلب رأيه على رأي رئيس الدولة، وذلك حين تكون أصل مرجعيته الدينية في دولة أجنبية أخرى، فينسلخ هو وجماعته شيئاً فشيئاً، منفذاً لفتاوى مرجعيته، في هذه الدول، وها نحن نشاهد تنظيمات دينية فتكت بدولها.
وها هو قول الشيخ عبدالعزيز ابن باز رحمه الله في هذا الفصل الذي فيه يبين حقيقة الأحزاب السياسية حيث ذكر «وأما الذين يطلبون الولاية في الانتخابات، فإنهم لا يقصدون أن يتولوا هم، والله أعلم بنياتهم، لكن يقصدون أن يتولى حزبهم مثلاً، لأن هناك حزباً مضاداً، فلو تركت الأحزاب الأخرى الضالة فإنه يحصل الفساد، وإن الذين يخرجون على الحاكم لأمر ديني، ودنيوي هل سيغيرون الحال إلى الأحسن؟ بل إلى الأسوأ جداً وانظر إلى الدول كلها تجد أنها تحولت إلى الشيء نفسه، وأنصح طلاب العلم الذين يقولون هذا ألا يغروا المسلمين، غداً تخرج الطائفة ثم تحطم، أو يتصور عن الملتزمين تصور غير صحيح»، وردد قائلاً: «إياكم ثم إياكم، احذروا الفتن، البلاد والحمد لله آمنة، ومطمئنة كل يتمنى أن يعيش فيها»، كما قال «في الأمور الشرعية يستشار أهل العلم الشرعي، وفي الأمور الحربية يستشار أهل العلم بالحرب، وفي أمور الصناعة يستشار أهل العلم بالصناعة، وهكذا، كل أحد يدرك ما لا يدركه الآخر»، فهو تفسير واضح بالفصل بين التخصصات، درء للمفاسد التي ينتج عنها الخلط والتخبط والتي يكون عاقبتها الخراب والدمار.
إذن، فلينشغل رجل الدين بصولته وجولته في علوم أصول الفقه والقواعد الفقهية وعلوم القرآن، فيعلم الناس ويوجههم ويصلح عقيدتهم، ويترك السياسة لأهلها، وإن كانت هواية رجل الدين السياسة فليترك المنبر ويشتغل بالسياسة، أما «رمنتين في اليد ما يصير».