نشر الكاتب السعودي مشعل السديري «الكاتب بجريدة الشرق الأوسط» قصة جميلة تستحق القراءة، والتمعن، والوقوف عندها، لما فيها من دروس وعبر، وتوكل على الله، في ظروف صعبة وقاسية.
هذا ما كتبه السديري في عموده تحت عنوان «حكاية محمد الشبرمي»، أنشر هنا القصة للاستفادة، والكلام القادم على لسان الكاتب السديري نقلاً عن شخص ذهب إلى أمريكا والتقى بصاحب القصة، يقول:
روى لي أحدهم قائلاً: «ذهبت إلى أمريكا في منتصف الثمانينات في دورة علمية، والتقيت هناك برجل أمريكي من أصول سعودية، وقد وجدت في روايته ما يستحق أن يكتب لما فيها من الغرابة والعزيمة».
وذكر له الأمريكي العربي واسمه «محمد الشبرمي» حكايته قائلاً: «ولدت في «النفود» بشمال المملكة، وكنت وحيد والدي الفقيرين اللذين لا يملكان غير ثلاثين رأساً من الشياه، نصفها مات من المرض، وفي أحد الأيام فرز لي أبي منها خمس شياه قائلاً لي: إن الجوع قد يقتلنا جميعاً، ونحن لا نستطيع أن نعولك، فخذ هذه الشياه وبعها قبل أن تموت، وترزق بثمنها، ونحن لا نملك لك غير الدعاء.
فانطلقت بشياهي إلى حائل وكان عمري وقتها في حدود 14 سنة، وبعتها في الحراج، وصادف أن كانت هناك سيارة محملة بالخضراوات لسائقين من لبنان، وعزموني على الغداء معهم، وأثناء ذلك عرضوا عليّ العمل معهم كمستخدم، ووافقت، وفي ثاني يوم انطلقت معهم راكباً في سلة الشاحنة، ومكثت معهم في «البقاع» عامين أخدمهم، ثم ذهبت إلى بيروت وتعرفت على شباب زينوا لي الهجرة معهم إلى أمريكا، وهذا هو ما حصل، وبنقودي القليلة قطعت تذكرة في إحدى السفن بالدرجة الثالثة، وتدبرت بباقي المبلغ بعض حوائجي وزادي.
ووصلت إلى «نيويورك» واشتغلت في أحد المطاعم أنظفه وأمسح أرضيته، ثم في غسيل السيارات، ووطنت نفسي على الابتعاد عن كل مغريات الإجرام، وبدأت أتعلم مفردات اللغة شيئاً فشيئاً، واستغللتها فرصة للاستفادة بالالتحاق بتعليم الكبار، وهو برنامج حكومي مجاني وشبه إجباري، وكنت في الوقت نفسه أواصل عملي وأسكن في غرفة صغيرة تشبه الزنزانة، ومع المثابرة والإصرار حصلت على الشهادة الابتدائية، ثم الثانوية.
ثم التحقت بالجامعة وتخرجت فيها، ثم حصلت على درجة الماجستير وبعدها الدكتوراه، وبدأت أحوالي في كل مرحلة تتطور للأحسن، ودخلت في مسابقة للتوظيف في هيئة الأمم المتحدة وفزت فيها، وأثناء عملي هناك اختلطت وتعرفت على الشخصيات المؤثرة من الأمريكان وسواهم، وبحكم أنني أتقن اللغة العربية إلى جانب الإنجليزية، فقد عينوني كاستشاري لدائرة الشرق الأوسط، وهذا المنصب أعطاني دفعة للاحتكاك بالشركات المالية والبنوك ورجال الأعمال النافذين.
وأصبحت من رجال المجتمع الذين يشار إليهم بالبنان، ويدعونني في المحافل والمناسبات، وحصلت على أرفع رتبة في مجالي بالتصنيف الأمريكي أمام الرئيس الأمريكي. وتفاجأت به يلقي علي هذه الأبيات من الشعر الشعبي «للوقداني»:
دار بــــدار وجيــــــران تقاربهــــــا
وأرض بأرض وأطـــال بأطـلالِ
والناس أجانيـب لين إن تصاحبــها
تكون منهم كما قالوا بالأمثالِ
والأرض لله نمشي في مناكبهــــــا
واللــه قدر لنـــا أرزاقا وآجــــالِ
وصمت برهة ثم قال: واليوم ثروتي تقدر «بمئات الملايين»، وقد تزوجت بأمريكية ورزقت منها بابنتين «سلمى ونورة»، وبين كل فترة وأخرى أذهب معهما إلى السعودية، واشتريت بيتاً في حائل لأبي وأمي وجعلتهما يعيشان في رغد من العيش، وساعدت كل من أعرفهم من الأسر المحتاجة.
ولم أنس الإخوان الذين اشتغلت معهم في الشاحنة، وبحكم أنني أعرف أسماءهم فقد ذهبت إلى «البقاع» أسأل عنهم واحداً واحداً، فمنهم من مات وساعدت أبناءه، ومنهم من لايزال على قيد الحياة وأعطيتهم ما يستحقونه، وكيف لا، فلولا عرضهم لي وحسن معاملتهم لما بدأت بالخطوة الأولى في طريق الألف ميل؟!».
وينهي الرجل الذي روى لي ذلك قائلاً: «الشيء الوحيد الذي نسيت أن أسأل «الشبرمي» عنه هو: كيف استطاع أن يتدبر جواز سفره منذ البداية؟!».
انتهى النقل عن عمود الكاتب السعودي مشعل السديري، القصة التي أوردها جميلة وتعطي أملاً للشباب في أن أبواب الرزق تحتاج إلى البذل والتعب أولاً، والتوفيق يأتي من عند الله، هذه بعض الدروس من هذه القصة: أول درس في هذه القصة هو تحمل المسؤولية، وأخذ زمام الأمور في سن صغيرة، والاعتماد على الذات برأس مال صغير جداً، مع الإيمان المطلق أن الرزق بيد الله الواحد الأحد وليس بيد أحد من الخلق، فقد تضيق عليك الحياة أياماً، لكن الرزق هو عند الله وقد يأتي الفرج بعد العسر.
الدرس الثاني: هو دعاء الوالدين للابن، فقد قال له والده: «ونحن لا نملك إلا الدعاء لك»، فسبحان الله، ربما وفقه الله بدعاء والديه، وهذا درس هام جداً، فالتوفيق والسداد يأتي من دعاء الوالدين، فكثير ممن أصبح يشار لهم بالبنان من بعد نجاحهم في حياتهم، كانوا من البارين بوالديهم، وكان هذا البر سبباً في نجاحهم، وتوفيق الله لهم.
الدرس الثالث: هو حين تجد ضيق العيش في وطنك، فأرض الله واسعة، والرزق بيده سبحانه، وهذا أيضاً ورد في القرآن الكريم، في موضوع الهجرة وإن الإنسان قد يجد ضيقاً وتعباً، لكنه سيجد سعة بعد ذلك.
الدرس الرابع: هو أن العمل ليس عيباً، فقد عمل محمد الشبرمي صاحب الملايين في بداية حياته عاملاً عند مجموعة من الرجال، وبعدها أيضاً عمل عامل نظافة في مطعم بنيويورك.
الدرس الخامس: هو التعليم، فلم يكن لمحمد الشبرمي الوصول لمنصب متقدم والنجاح في عمله الخاص لو لم يذهب للتعلم في تعليم الكبار بأمريكا.
الدرس السادس: هو النية الطيبة، ولو أن لهذا الشاب وهو صغير بالسن لم تكن لديه نية طيبة لما استمر مع من عمل معهم لمدة عامين في لبنان قبل أن يسافر إلى أمريكا، كما إنه لم يقل لابد أن أسافر إلى أمريكا على الدرجة الأولى، فقد سافر في مركب وعلى الدرجة الثالثة.
الدرس السابع: ربما كان الأهم في هذه الدروس هو حين أنعم الله عليه بالخير لم ينس والديه، وعاد واشترى لهما بيتاً في حائل وجعلهما يعيشان في رغد وسعة من العيش، وهذا ربما من أعظم الدروس، فلم يبقى في أمريكا، وعاش حياته وتنكر لأهله ووالديه، بل عاد وأكرمهما وهذا من حسن الخلق، وحسن الدين، وحسن التربية.
الدرس الثامن: هو أن عند هذا الرجل وفاءً كبيراً جداً، من أجل هذا وفقه الله، فقد ذهب إلى كل من وقف معه وهو صغير معدم، وقدم لهم المساعدة بعد أن أصبح مليونيراً، بل حتى من توفي منهم، سأل عن أبنائهم وأكرمهم، وهذا قمة الوفاء، أن الرجال الحقيقيين دائماً ما يكونون أوفياء لبداياتهم، وأوفياء لمن وقف معهم.
القصة جميلة وربما مختصرة، لكن لها وقع في النفس وأثر، وتعطي كل شاب آملاً في أن يبدأ حياته دون خوف أو تردد، في بلده، أو خارجها، ويتوكل على الله، فهو الموفق سبحانه، كما إن النية الطيبة ستقود صاحبها دائماً للتوفيق والنجاح.
حتى لو كاد لك أحدهم، أو حفر لك أحدهم حفرة، أو طعنك أحدهم في ظهرك، أو منع رزق كان من نصيبك، لكن الله بعد ذلك سيجعلك تنهض وتعود، وتنجح، ويفشل صاحب النية السيئة.