في زيارتي الأولى إلى المدينة العالمية بدبي، استوقفتني قرى مختلفة جسدت ثقافة بلادها أو إقليمها، لكن دخولي للقرية الهندية كان بمثابة إرجاع الشيء لأصله، أو بعثرة وإعادة تنظيم للإقرار باستنساخ الثقافة الهندية في بلداننا الخليجية على عدد من الأصعدة. في كل ركن من تلك القرية وجدت للهند في خليجنا بصمة راسخة، فهنا الشماغ الذي يرتديه رجالنا، وهناك الشال والحناء، فضلاً عن ذلك التقارب اللافت ما بين الساري الهندي بطرحته الملتفة حول رأس المرأة، والثوب الشعبي الخليجي «النشل»، ومشتقاته، حينها تذكرت أحاديث جدي عن التجارة مع الهند عن طريق البحر «أيام لوّل»، و»الصندوق المبيت» في بيتنا الكبير، و»مرآة الطاووس» الشهيرة في أغلب بيوتنا القديمة، والبهارات التي تضفي نكهتها المميزة على أغلب أطعمتنا، والأسماء الهندية التي نطلقها على حاجياتنا ونتداول بعضها في أحاديثنا حتى شكلت جزءاً من هويتنا الثقافية، تفاصيل رسمت التاريخ وحددت تقاطيع الخليج العربي وسماته.
إنها ليست مذكرات أكتبها ولا ذكريات، ولا «حزاوي» أستنشق بها عبق الماضي الأثير، بل ملامح دقيقة شاهدة على عمق وامتداد تاريخي أكسب الخليج العربي كثيراً من مقوماته وصفاته ومعالمه الثقافية والحضارية، شاهدة على مستوى ما بلغه الطرفان من علاقات وطيدة قديمة وطويلة، كانت كفيلة بأن تصهر كثيراً من الفروقات، الأمر الذي مازال الخليجيون والهنود يحنون إليه رغم ما اعترى العلاقات البينية من توترات وعدم تفاهم في بعض الملفات والقضايا، ويأملون لاستعادته بعد مرحلة من الفتور والتباعد، لطالما كان هناك ما يعكر صفو العلاقات التاريخية، نعم، إلاَّ أنه ولدواعٍ استراتيجية كان لا بد من كبح تلك التوترات وضبطها، وأن الطرفين مهما شهدا من تباعد يبقى أن «جيوبوليتيك» الخليج العربي مرتبط ارتباط وثيق بـ «الجيوبوليتيك» الهندي، وهو التفسير والمبرر الأرجح لما بات يلوح جلياً في الأفق من نزوع لإعادة إحياء تلك العلاقات وإنعاشها.
ولعل أهم ما يمكن أن يسهم في توطيد العلاقات المستقبلية وتطويرها وتجاوز المعوقات المطروحة أمامها، موازنة النفط والسياسة، والتي تقوم على تصدير النفط الخليجي للهند، إذ يشكل نفط الخليج العربي عصب الطاقة الهندية ولولاه لشلت حركة الهند في هذا المجال، من جهة أخرى، تتطلع دول الخليج العربي لدعم سياسي في بعض الملفات والقضايا الشائكة إقليمياً ودولياً، وهو الدور الذي بمقدور الهند أن تلعبه باحتراف وتمكن. الأمر المهم أيضاً على الصعيد السياسي أن الهند قد تكون منفذاً جيداً وخياراً استراتيجياً موفقاً للوساطة ما بين الخليج العربي وإيران لحل بعض القضايا والحد من تدخلات الأخيرة، لما تتمتع به الهند من علاقات جيدة وطويلة مع الجانب الإيراني، لاسيما بعد أن فقدت دول خليجية مفتاحها الدبلوماسي مع دول عربية أخرى.
المأمول من تلك العلاقات الواعدة، ألاَّ يقتصر الأمر على التبادل التجاري والشراكة السياسية، بل يمتد لظهور بادرة فتح آفاق تعاون جديدة على المستوى الدفاعي، لما تشهده الهند من تطور ملحوظ في الجانبين العسكري والنووي، ومن يدري، لعل مجالات تعاون وشراكة أخرى قادمة على الطريق.
* اختلاج النبض:
الأيام القادمة ستكون حبلى بحوار استراتيجي بين الخليج العربي والهند للبحث في تحديات وفرص تلك العلاقات البينية بصفة مباشرة، والعوامل الخارجية المؤثرة في ظل متغيرات الأحداث والتوازنات الدولية والإقليمية على الساحة السياسية، ستبدي لنا الأيام حجم ما يعتري الطرفين من نزوع نحو التعاون.