هناك أشخاص لا يمكن أن يمروا على حياتك دون أن يتركوا أثراً إيجابياً ورصيداً من التقدير والاحترام، وهم بفضل الله كُثر، ومنهم الإماراتي العزيز الدكتور عبدالخالق عبدالله الذي التقيت به مراراً خلال فعاليات فكرية وثقافية أو من خلال لقاءات صحافية لصالح جريدة «الوطن»، وهو احترامٌ مستحق لما يتمتع به من خلق رفيع ومستوى علمي وأكاديمي راقٍ. ولعل من المؤسف بالنسبة لشخص مثلي يرى في الدكتور عبدالخالق وأمثاله بصيصاً من أمل في حمل مشاعل التنوير عبر رصيد الثقافة والاحترام الذي تكنه لهم الجماهير العربية والخليجية المتعطشة للمعرفة والهاربة من الجمود والتحجر الذي لازم مثقفي العقود الماضية، أن المستوى الرفيع لم يمنع الدكتور من السقوط في فخ ما يشاع من فبركات ضد البحرين، خصوصاً وقد عرف عنه كأكاديمي رصين بحثه الدائم عن الحقيقة بعيداً عن أية أفكار مسبقة.
قبل أيام نشر الدكتور عبدالخالق عبر حسابه على «تويتر» تغريدة يتحدث فيها عن «دولة خليجية» تسقط الجنسية عن نحو 200 مواطن «أباً عن جد»، وذكر أيضاً وجود 4 آلاف «سجين سياسي»، وهي إشارة واضحة بأن الحديث يخص مملكة البحرين. قبل الخوض في تفاصيل ما كتبه الدكتور عبدالخالق، أود تذكيره بحوار مع «الوطن» عائد للعام 2011، حيث وصف فيه الدكتور أحداث الشغب التي شهدتها مملكة البحرين بأنها «قلة أدب»، والذي امتنعتُ شخصياً وامتنعت الجريدة عن نشره «نصاً» في حينه، احتراماً لمكانة الدكتور.
الـ 200 ممن نزعت جنسياتهم في البحرين، هم ذاتهم ممن وصف الدكتور افعالهم بأنها «قلة أدب»، ومنهم من قام بارتكاب أعمال إجرامية بحق الوطن، سفكوا فيها دماء الأبرياء، ومنهم من قتل ابن الإمارات الشهيد طارق الشحي على أرض مملكة البحرين، وهم ذاتهم من حاولوا اختطاف الوطن وتقديمه لقمة سائغة لصالح المشروع الإيراني، عبر عقود من الاستتار خلف الشعارات الرنانة وهو المشروع الذي طالما حذر منه الدكتور في كل لقاءاته الأكاديمية والإعلامية.
أما حديث الدكتور عن «الأب والجد» والأصول والفروع، فلا أعتقد أنه يخفى عليه وعلى غيره، أن بحثاً صغيراً في أسماء المسقطة جنسياتهم، وفقاً للقانون والدستور، سيجعله يغير رأيه، فمن هؤلاء عدد كبير من الذين ضلوا السبيل ووجدوا أنفسهم في أحضان إيران أو في أحضان «داعش» أمثال تركي البنعلي، القيادي فيما يسمى بتنظيم «الدولة الإسلامية» وعشرات من أمثاله.
وما أثار دهشتي حقاً هو لفظ «أباً عن جد» الذي يتنافي وقيم الدولة المدنية التي لا تنظر لأبنائها على أساس أصول آبائهم وأجدادهم، وهو طرحٌ يدافع عنه الدكتور باستمرار، لكنه ناقض نفسه هنا ليميط اللثام بشكل واضح عن الجهة التي يتلقى منها الدكتور عبدالخالق معلوماته عن البحرين، وهي عبارة عنصرية يعرفها كل متابع للشأن البحريني بداية بالمتخصصين ونهاية برجل الشارع. «أباً عن جد» عبارة ارتبطت بالذاكرة السياسية الحديثة للبحرين كنموذج لاختزال الوطنية في مفهوم طائفي ضيق كان نتاجاً لتسلط ثيوقراطي يحاول تجريد البحرين من أهم خصائصها في الانفتاح والتسامح وتقبل الآخر.
اما بالنسبة لـ 4 آلاف «سجين سياسي»، فلا بد أن أتسائل بلهجة أخواننا المصريين «انتو بتجيبوا الحاجات دي منين»؟! إن المؤسسة العقابية الوحيدة في البحرين هي سجن «جو»، وهي يستحيل بأي حال من الأحوال أن تتسع لهذا الرقم ممن يسميهم الدكتور بسجناء الرأي إذا أضفنا إليهم السجناء الآخرين. وللمعلومية فأنا من خلال متابعتي المهنية للشأن البحريني أعلم يقيناً أنه لا يوجد في البحرين سجناء رأي أو سجناء سياسيين، وكل من تم توقيفه وإحالته للمحكمة أو صدر حكم بحقه كان بناء على تجريم فعله وفق نصوص القانون، بغض النظر عن كون هؤلاء محسوبين على المعارضة أم لا!
ولو فرضنا بأن كل المحكومين من المعارضة أبرياء ومعتقلو رأي، فإن هذا يعني أن قتلة الشهيد الإماراتي طارق الشحي يجب أن يعتبروا معتقلين سياسيين وليس قتلة سفكوا دماء شخص كان يؤدي واجبه وفقاً لاتفاقيات بين البلدين.
إن محاولة تصوير البحرين بأنها معتقل كبير لمواطنيها أو أنها تعتقل الناس على النوايا أو الانتماء السياسي أو الحزبي هي «ماركة مسجلة» لمن نزلت كلمات الدكتور عبدالخالق عبدالله بلسماً على قلوبهم، فاحتفوا بها في وسائل التواصل الاجتماعي، وهم أنفسهم من رقص طرباً على جسد شهيد الإمارات وأشقائه الشهداء من رجال الأمن البحريني، وهم من لم يخفوا شماتتهم في شهداء تحالف عاصفة الحزم الخليجيين لأن موقعهم لم يكن في صف الوطن ولا الخليج ولا المشروع العربي، وهم من احتفى بهلوسة قائدهم خامنئي حول صراع يدور في البحرين بين الحسين ويزيد.
لو كانت لي أمنية أخص بها عزيزي الدكتور عبدالخالق عبدالله لتمنيت أن يعيش لحظة بحرينية بامتياز تنحشر فيها عائلة وأطفال في سيارة في طريق عام أمام كومة من الإطارات المحروقة يخشى رب الأسرة إزاحتها حتى لا تكون محشوة باسطوانة غاز كالتي أودت بحياة «الظفيري» ذي 16 ربيعاً، لتمر عليه الثواني دهوراً وهو لا يعرف أيمضي أو يقف في انتظار عبوة مولوتوف يلقيها أحدهم في تعبير عن «الرأي». أتمنى أن يسمع الدكتور عبدالخالق دوي انفجار عبوة ناسفة كالتي تودي بحياة رجال الأمن ومن يتصادف مروره المشؤوم في شوارع البلاد أو يرى أشلاء ورعباً ودماء، وأعلم حينها أن الذخيرة اللغوية للدكتور ستسعفه بعبارات ومفردات أكثر بلاغة من وصفها بأنها مجرد «قلة الأدب».
* ورق أبيض..
من المؤسف أن يطلق الدكتور الفاضل عبدالله عبدالخالق مثل هذا التصريح ونحن نحتفل بجانب إخواننا في الإمارات بعيد الشهيد والأعياد الوطنية المجيدة لدولة الإمارات الحبيبة، وعتبنا على الدكتور أتى بحجم محبتنا للإمارات واحترامنا لشخصه.