لم تكن القوة والبطش وراء انحسار وتراجع حزب الدعوة «الشيعي» في العراق مطلع ثمانينات القرن الماضي، بل كان أمراً آخر.
بعدما انتشر حزب الدعوة «الإسلامية» في الأوساط الشيعية في العراق وبدأ عملياته الإرهابية التفجيرية في أبريل من عام 1980 بدأت الحكومة العراقية بسلسلة إجراءات مع هذا الحزب وأفراده ومنها حصره، وملاحقة مجرميه، وكثيراً ما يتشدق أعضاء حزب الدعوة بتضحياتهم واضطهاد الحكومة العراقية لهم وتعذيبها وإعدامها أفرادهم ليضيفوا مظلومية جديدة إلى سجل مظلومياتهم التاريخية المزيفة، لكن سبب انحسار وتراجع دور هذا الحزب وإرهابه في الفترات اللاحقة وحتى عام 2003، هو المعالجة الفكرية وليست الأمنية، فحزب الدعوة يحمل فكراً منحرفاً، والفكر مهما كان نوعه لا يمكن قتله وإزاحته بغير الفكر، وهذا ما أدركته الحكومية العراقية وقتها جيداً، وكانت تدرك أيضاً أن المعالجة الأمنية ستصنع من مجرمين إرهابيين رموزاً وأبطالاً في عيون جمهورهم، ولذلك عملت على المعالجة الفكرية بشكل أكبر من المعالجة الأمنية التي لم تهملها طبعاً، لكن للأسف الجانب الفكري غمط حقه ولم يذكر كثيراً.
ما حصل في حينها هو أن فريقاً من علماء التاريخ والفكر أجروا دراسة لمراحل التاريخ الإسلامي وانتشار الأفكار المنحرفة فيه وطريقة تقويمها وقدموا توصيتهم بالعمل على تثقيف المجتمع بكتب علماء المسلمين الذين واجهوا الانحرافات الفكرية، فانتشرت وقتها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما رحمهم الله جميعاً، وطبعت هذه الكتب في مطابع بغداد، ولاقت رواجاً كبيراً بين المسلمين، وساهمت مساهمة فاعلة وكبيرة في انحسار فكر حزب الدعوة وكانت السبب الأكبر في ابتعاده عن المجتمع.
وعلى الرغم من أن المعالجة الفكرية جاءت بنتائج كبيرة إلا أنها لم تكتمل، والسبب أن بعض المتعاطفين «سراً» مع فكر حزب الدعوة تسلقوا في حزب البعث وبعض المواقع في دائرة الأمن العام، ومن خلال مواقعهم تلك بدؤوا بمحاربة من ينشر الفكر المضاد لحزب الدعوة مستغلين توجه الدولة في عدم سيادة فكر إسلامي على آخر مهما كان نوعه، وازداد الأمر سوءاً بعد توتر وانقطاع العلاقات بين العراق والمملكة العربية السعودية عقب عام 1990، فقد كانت هذه الأطراف تتعامل بمنتهى القسوة مع الشباب وتعتبر حيازتهم لكتب ابن تيمية وابن القيم جريمة، بدعوى «الوهابية»، ولا ينكر أن تصرفات بعض الشباب المتدين التي اتصف قليل منها بالحمق كانت سبباً في شن الحرب على الفكر الذي كان يوماً سبباً في معالجة فكر حزب الدعوة المنحرف.
أما وضع حزب الدعوة الحالي وما وصل إليه فهو ليس فكرياً بحال من الأحوال، لأنه لم يصل السلطة به وإنما باستخدام الآلة العسكرية الأمريكية التي قفز بها على كرسي الحكم ليمارس هذه المرة إرهاب الدولة بدل إرهاب العصابات.