كتبت قبل عدة سنوات في هذه المساحة عن نقاشات دارت بيني وبين صديق من إحدى «جمهوريات الموز»، سواء أكان زائراً لي هنا، أو كنت زائراً له في بلاده، من منطلق نقل التجارب، ومقاربة بعض الوقائع.
مؤخراً كنت في زيارة لهذا الصديق في بلاده، وتصادف وجودي بعد أشهر من تغييرات سياسية في مناصب الدولة، وتعديل للقوانين، وإسناد بعض المسؤوليات لأشخاص جدد، إضافة لانتخابات برلمانية وبلدية.
احتسيت من كأس الشاي أمامي، ونحن جالسان في مقهى شهير في قلب عاصمة جمهورية الموز، وسألته عن أحد أصدقائنا المشتركين في بلاده:
كيف حال فلان؟!
أجاب: فلان؟! لا أعرف عنه شيئاً، سوى ما أقرؤه في الجرائد أو أطلع عليه في القنوات التلفزيونية.
سألته: جرائد، تلفزيون؟! هل أصبح إعلامياً أو كاتباً؟!
أجاب: لا، أصبح وزيراً!
قلت: هذه نقلة طيبة، فصديقنا فلان مثال للتواضع والأخلاق، وأجزم بأنه سيطور الكثير، بصراحة هو «خوش رجل».
أجاب بهمهمة: نعم، «كان» خوش رجل!
سألت مستغرباً: ولماذا الكلام بصيغة الماضي، لماذا «كان»؟!
أجاب بسرعة: لأن فلاناً تغير، أصبح وزيراً وتغير بشكل غريب، ألا يحصل لديكم في بلادكم هذا الشيء؟!
أجبت: أصدقك القول، شخصياً كتبت معادلة فيما مضى في أحد مقالاتي، لربما أطالب يوماً بـ «براءة ابتكار» لها، تقول إنك «حتى تعرف معدن شخص، أجلسه على كرسي»! وطبعاً أعني هنا كرسي مسؤولية.
سألني: ولماذا هذه المعادلة؟! لابد لها من مسببات، فلا دخان من غير نار؟!
أجبت مفسراً: الواقع، أننا شهدنا نماذج فيها «تحول غريب»، والحمدلله أنها لا تشمل الكل، بل بعض الحالات، يتم فيها توزير شخص أو شخصة، نأمل منه الكثير، نتوقع منه التطوير، نبني على شخصيته وأخلاقه وتعاملاته السابقة، فنفاجأ بعد مدة بأن هذا الشخص تغير كلياً، أخلاقه تحولت من التواضع للعلو والكبر، استماعه للناس باهتمام وقربه منهم تحول إلى تجاهل وتعمد للبعد عنهم، من كانوا أصدقاء له مؤيدين له ابتعدوا عنه لأنه عاداهم بشكل صريح، بل حاول استغلال بعضهم، وقس على هذا المنوال كثيراً من التصرفات.
هتف مستنكراً: هذه كارثة، وهل الجميع أصابه داء الكرسي هذا؟!
رددت بسرعة: بالطبع لا، هناك من مازال كما عرفناه قبل الجلوس على الكرسي، نفس الأخلاق، نفس الجدية، نفس «النظافة» الإدارية، هؤلاء نفخر بهم لأن المناصب لا تغيرهم، لأنهم لا يرونها «ترفاً» و»برستيجاً» وتحولاً لهم لمستوى «الإليت» في المجتمع، بل يرونها مسؤولية وأمانة في رقابهم، يتذكرون القسم الذي أقسموا عليه أمام جلالة الملك، ويطبقون توجيهات سمو رئيس الوزراء المعنية بتلمس هموم الناس والنزول لهم بشكل إيجابي.
تساءل بفضول: طيب أين المشكلة؟!
أجبت: المشكلة، حينما يطغى النوع الأول على الثاني، هنا يحدث الخلل، والمصيبة حينما يتطور تأثير الكرسي، ويبدأ هذا «الفيروس» بتغيير لا الوزراء فقط، بل حتى الوكلاء والمدراء وحتى النواب الذين انتخبهم الناس.
تمتم قائلاً: والله مشكلة!
استطردت في الكلام وأنهيته بتساؤل: لكن دعك منا، فنحن في صحافتنا نقف لهؤلاء، ننتقدهم، ونبين أخطاءهم، فهو واجبنا تجاه الدولة وعهدنا مع ملكنا وقيادتنا، أن نصدقهم القول فيما نراه ونتعايش معه، وأن ننقل لهم صوت الناس حتى لو حاول بعض المسؤولين خنقه وإخفاءه. دعك منا وأخبرنا كيف تغير صاحبنا؟!
أجاب موجها لي التساؤلات: هل لك أن تتخيل صاحبنا رفيع الأخلاق، حسن التعامل مع الناس يتحول إلى شخص ينظر للناس من برج عاجي؟! هل لك أن تتخيل صاحبنا الذي كان يهمه رأي الجميع ويحرص على معرفته اليوم هو يتجاهل حتى كلام المقربين منه ويعمل بأسلوب «أوامري ويجب أن تنفذوها» أو بأسلوب «أنا أفهم الجميع، حتى بعض المسؤولين الذين سبقوني»؟! أتتخيل صاحبنا الذي كنا نناديه باسمه مجرداً، لا يجرؤ أقرب المقربين له عل مناداته بغير «سعادة الوزير» أو «طااااال عمرك»؟! أتستوعب أن صاحبنا الذي كان يجلس معنا في لقاءاتنا بملابس «سمارت» لا يدخل مجالس أصحابه اليوم إلا بـ «البشت».
صرخت مستنكراً: اسكت رجاء، وكأنك تقتل كل أمل جميل لدي، بأنه سيأتي علينا يوم تكون فيه الطاقات الجديدة مؤسسة لأعراف وممارسات راقية تمحي معها القديمة التي رسخها بعض المسؤولين وصوروا بها شاغلي هذه المناصب على أن بعضهم «طواوويس» أو «طبقة أرقى» من بقية الطبقات الشعبية.
رد بهدوء: نسأل الله له ولمثل نوعه الهداية، فالمناصب مسؤولية لا يمكن أن تدار بشكل غير مؤسسي، هي قطاعات ملك للدولة وليست ملكاً لأفراد.
سألته محاولاً تغيير الموضع: يكفيني الحديث عن صاحبنا الذي «تغير»، الله يصلحه، الآن أخبرني عن صاحبنا الثاني، ما هي أخباره؟! وكيف هي أحواله؟
أجاب بخبث: صاحبنا الثاني، تريد أن تعرف أخباره؟!
أجبته بسرعة: نعم.
قال وابتسامة صفراء تعلو وجهه: أصبح نائباً في البرلمان.
صرخت وأنا أنهض من مكاني: لا هذه مصيبة أكبر، أستميحك العذر، سأتجه للمطار راكباً أول طائرة لبلدي، يكفيني أصلاً ما فيها من حالات ضربها «فيروس الكرسي» ولا أريد سماع المزيد مما لديكم.