من المفارقات التاريخية أن الدول العربية في الشرق الأوسط كانت تلجأ للدول الأوروبية الاستعمارية منذ ثلاثة قرون لمعالجة مشاكلها وحماية أراضيها، وبعدها صارت تلجأ للولايات المتحدة لمعالجة مشاكلها وحماية أراضيها أيضاً، وهذا تم في وقت تحولت فيه دول الاتحاد الأوروبي إلى دول تابعة للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. فلم تحاول أوروبا بخبراتها الواسعة في شؤون المنطقة التورط في الفوضى العارمة التي أثارتها السياسة الأمريكية، وظلت متفرجة وداعمة لواشنطن كما حدث عندما قرر الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن غزو العراق لأنه يملك أسلحة الدمار الشامل.
أوروبا لم تكترث كثيراً بأن نتيجة سياستها الخارجية الداعمة لكل ما هو أمريكي في الشرق الأوسط ستكون لها نتائج سلبية مستقبلاً على الأمن القومي الأوروبي، وهذا ما حدث الآن عندما تصاعدت الاتجاهات المتطرفة، وصار للجماعات الثيوقراطية الراديكالية نفوذ في القارة الأوروبية لتبدأ مواجهة هذا النوع من الإرهاب.
رغم الجهود التي اتخذتها الدول الأوروبية سواءً في باريس أو لندن أو حتى بروكسل، إلا أن المشكلة الأكبر لم تظهر بعد حتى الآن، ولنلاحظ هنا أن المتورطين في الأحداث الإرهابية الأخيرة ليسوا أجانب أو عرباً أو جاؤوا من أفغانستان أو إحدى القرى النائية، بل هم مواطنون أوروبيون، وهنا الاختلاف الذي يبدو أن أوروبا لم تفهمه بعد. الإرهاب عندما ينفذه مواطنون من نفس البلد في نفس المجتمع فإنه يكون مؤلماً أكثر، وهذا يتطلب معالجة مختلفة.
وقبل أن تعالج أوروبا مشاكلها مع الإرهاب، فإنه من المهم أن تعود إلى الأسباب التي دفعت لمثل هذا التطرف، فالسبب الرئيس هو تحول الدول الأوروبية إلى دول مستقبلة للاجئين من الدول التي أثارت فيها السياسة الأمريكية الصراعات وانسحبت واشنطن منها سريعاً، مما يعني أن العواصم الأوروبية تتحمل الآن تبعات سياسة البيت الأبيض التي قادت إلى أكبر موجة مهاجرين في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
أكثر من 2317 شخصاً يدخلون القارة الأوروبية كل يوم بحسب منظمة الهجرة الدولية، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى مليون شخص بحلول نهاية العام الجاري، والعملية لن تتوقف بل ستستمر.
هذا المشهد كله يقود إلى سؤال عن جدوى تورط دول الاتحاد الأوروبي في شؤون الشرق الأوسط، بعد أن تركتها واشنطن وتراجع النفوذ الأمريكي كثيراً، وبدأت عدة قوى تتنافس على إدارة تفاعلات المنطقة، من أبرزها روسيا التي بسطت نفوذها سريعاً.
أوروبا أمام مرحلة مفصلية الآن، إما الابتعاد عن قضايا الشرق الأوسط، أو التورط أكثر في قضاياها، ولكن في كلتا الحالتين، فإن تداعيات السياسة الأمريكية تجاه المنطقة قادت وستقود إلى نتيجة حتمية بأن أوروبا ستتورط في المنطقة عاجلاً أم آجلاً، وإن قررت عدم التورط فإنها ستكتوي بنيران الفوضى المشتعلة هنا في الشرق الأوسط.