جاءت أحداث ما سمي بـ «الربيع العربي» في وقت أشد ما كان يحتاج فيه العرب للتغيير. فالتصنيف الديمقراطي الذي أخذ في التراجع والانحسار أثار سخط كثير من الشعوب، والتضييق على (هامش) الحريات زاد عن الحد الممكن احتماله. وتبديد المال العام كان سبباً رئيساً في اتساع مساحة الفقراء في الوطن العربي. كان الوطن العربي ومازال بحاجة إلى جرعة تغيير كبيرة تغير وجهه الشائخ والمنهك. ولكن.. أي تغيير هو المطلوب؟ وفي أي اتجاه؟ بالتأكيد ليس هو التغيير الذي يسلم الوطن العربي للفوضى ومن ثم للدواعش.
بدأ حراك الربيع العربي بظهور ما يسمى بـ «النشطاء» الذين يقضون وقتاً طويلاً في التغريد على تويتر أو الخطبة والدردشة على الفايس بوك. بهر نشطاء الربيع العربي الشعوب المقموعة بقدرتهم على التعبير عما في الخواطر وجرأتهم على الدعوة للخروج والاحتجاج في ظل سطوة المؤسسة الأمنية. فوقع كثير من العرب في الفخ الأول، وهو السير خلف هؤلاء النشطاء الذين لا يملكون أكثر من شعارات مقولبة يعرفها الأستاذ الجامعي كما يعرفها الحرفي البسيط، وأنهم قادرون على حشد الشارع ولكنهم ليسوا مؤهلين لقيادة دول. والفخ الثاني الذي وقع فيع العرب هو المطالبة بإسقاط النظام الذي مهد بشكل منطقي للسقوط في الفوضى. وبعد السقوط في الفوضى سقط النشطاء، وبدأت الاتهامات تكال لهم بالانتماء لقوى خارجية وتلقي تعليمات من منظمات غربية واستلام الأموال مقابل الترويج لمشروع غربي لم تتضح ملامحه.
وفي هذه الأيام يعود النشطاء أنفسهم ليمارسوا أدوارهم من جديد وفي الاتجاه نفسه. ويعود الغرب يمارس الأساليب (البالية) نفسها في الترويج لهم وفي (فبركة) خلفيات ثقافية وفلسفية لحراكهم ولأطروحاتهم والزج بهم في الواجهة الحضارية لهذه الأمة المتدهورة الحال. عاد وائل غنيم من مخبئه في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أنجز مهمته الأولى في إيصال التنظيم الإخواني لحكم مصر. وائل غنيم المصري الأصل والأمريكي الجنسية الذي يعمل مديراً في شركة غوغل عاد يغرد حول مصر وحول تردي الأوضاع في مصر. وكشف عن عبقريته التي جعلته يختفي في أحداث 30 نوفمبر ولا يشترك فيها لأنه لم يكن مطمئناً لعودة العسكر لحكم مصر من جديد. وعادت توكل كرمان اليمنية، التي حصلت على نوبل للاشيء، عادت تغرد وتجتمع مع المبعوث الدولي أحمد ولد الشيخ موجهة دفة الحرب والأحداث لخدمة حزبها الإخواني. وعاد المنصف المرزوقي رئيس تونس بعد الثورة البوعزيزية للواجهة الدولية متوجاً بجائزة واحد من عشرين مثقفاً في العالم! وكان قبلها قد حصد المركز الرابع في تصنيف أفضل مئة مفكر في العالم لعام 2013م! وبهذه المناسبة فاز «الرباعي الراعي للحوار» بجائزة نوبل ذلك الحوار الذي أشرف عليه المرزوقي نفسه ورئيس حكومته علي العريض. وأظن أن كثيراً من العرب ومن الإخوة التوانسة مذهولين من عبقرية المنصف المرزوقي التي لم تتفجر عن شيء فترة حكمه يغير من الواقع التونسي ويسهم في تتويجها، كدولة، على قائمة الجوائز التنموية والفكرية التي تقتصر على المرزوقي دون غيره.
العودة المحمومة لنشطاء الربيع العربي قد يكون مغزاها أن تونس ومصر وإن كانت ثورتاهما الربيعية لم تسفر عن انفراج ديمقراطي وتنموي وإن كانتا وقعتا في شيء كثير من الفوضى والإرهاب إلا أنهما نجتا من الفوضى الكبرى التي سقطت فيها باقي بلدان الربيع الفوضوي. وربما من المطلوب تصحيح مسار الفوضى في مصر وتونس وإعادتهما إلى مسار ليبيا وسوريا واليمن.
الغريب في الأمر أن مخططي الربيع العربي استخدموا في الجولة الثانية الشخوص نفسها والاستراتيجيات ذاتها. وفي حال سياسي لا يسمح لمثل هؤلاء بممارسة أساليبهم السابقة؛ إذ إن تحديات المرحلة أكثر تعقداً من سابقتها واتجاه الانحدار العربي مختلف أيضاً. فمن غير المقبول أن تواجه تفكك الدول العربية والتفشي الداعشي في كل مكان بخطاب تغيير الأنظمة والتحول الديمقراطي. وليس مستساغاً أن يكون رجال المرحلة وقادتها السياسيون مجموعة من المتنقلين بالطائرات ما بين بلدانهم والدول الأوروبية لإلقاء الخطب العصماء وتسلم الجوائز. تلك صفحة قد طويت في كتاب النكبات العربية. ولكنها تبقى مؤشراً أن المؤامرة ضد المنطقة العربية لم تنتهِ.