عوامل الدم وظروف التاريخ واعتبارات المكان ساهمت جميعها في تشكيل علاقة المواطن بالدولة الخليجية، وما إن انتهت حقبة النفط حتى بدأت هذه العلاقة بالاختلاف والتحوّل.
صارت الدولة مسؤولة عن المواطن في مختلف مناحي الحياة، وبتعبير آخر حياة المواطن الخليجي صارت برعاية دولته النفطية، وهو ما ساهم في تكوين ثقافة الرعاية، حيث صار الاعتقاد أن الدولة مسؤولة عن كل شيء، وباتت شريحة واسعة من مواطني الخليج ترى أنهم ليسوا مسؤولين عن تطوير حياتهم المهنية، أو تحسين مستوى معيشتهم لأنها من مهام الدولة أيضاً. هذه ليست مبالغة، بل حقيقة وواقع، ويمكن مشاهدتها عندما تقرر الدولة فرض المزيد من الرسوم أو ترفع الدعم عن إحدى السلع أو الخدمات، حيث يزداد النقاش والجدل ليطالب البعض بزيادة الرواتب مثلاً، وينشغل بالضغط من أجل تحقيق هذا المطلب، ويكون عادة الانشغال بزيادة الرواتب أكثر من الانشغال بإيجاد مصادر دخل إضافية.
تلك كانت علاقة المواطن بالدولة خلال فترة الدولة الريعية، ولكن كيف ستكون هذه العلاقة في مرحلة ما بعد الدولة الريعية؟
في هذه المرحلة سيتوقف تدريجياً أو يقل الدعم الحكومي المقدم للمواطنين، فتبدأ ثلاث مراحل:
* مرحلة الغضب والاستياء: هي مرحلة تعبير المواطنين عن رفضهم وتحفظهم من القرارات الحكومية لرفع الدعم أو الحد منه. وتكون مواجهة مفتوحة بين الطرفين «أي المواطنين والحكومة» وما يحكم هذه المواجهة هي العقلانية التي يتمتع بها كل طرف والحد الأقصى الذي يمكن أن يعبّر فيه عن رأيه. ومن مظاهر هذه المرحلة فوضى عارمة في شبكات التواصل الاجتماعي، وإمكانية إصدار بيانات إعلامية من أطراف عدة، وقد تصل إلى الخروج في مسيرات عامة. ويمكن في هذه المرحلة أن يستغل الغضب الشعبي من أطراف راديكالية محلية، أو قوى إقليمية ودولية لزعزعة الأمن والاستقرار وإثارة المواطنين ضد الحكومة.
بالنسبة للثقة القائمة بين المواطنين والحكومة في هذه المرحلة، فإنها ستمر بمرحلة صدمة يمكن تجاوزها إذا كانت الثقة كبيرة، ومن الممكن أن تواجه بمشاكل متعددة إذا كانت الثقة ضعيفة.
* مرحلة القناعة: هي مرحلة القناعة بالأمر الواقع، حيث يستسلم المواطنون للقرارات المتخذة حكومياً بشأن الدعم، فبعضهم يقتنع، والبعض الآخر يصبح في حالة عدم اكتراث، ولكن الجميع سيحرص على بحث كيفية الاستفادة من الأوضاع الجديدة سواءً رُفع الدعم، أو تم تقليله أو توجيهه لفئات معينة. في هذه المرحلة تعود الثقة بين المواطنين والحكومة إلى درجة مقبولة نسبياً من الاستقرار، لأن الجميع يرغب في الاستفادة وإن كانت محدودة.
* مرحلة الخوف المتبادل: في هذه المرحلة يسود الخوف المتبادل من الحرمان، وهي مرحلة متقدمة وترتبط بانتهاء الدعم الحكومي تقريباً، بحيث يسود شعور بأن الاعتراض لن يؤدي إلى نتيجة، فالقبول بالقليل أفضل من عدم القبول نهائياً. خاصة أن الاعتراض الشامل لن يؤدي إلا إلى الفوضى، وهناك نماذج كثيرة عالمياً مازالت حاضرة بدأ بمطالبات وانتهت بحروب أهلية وفوضى لم تنته حتى الآن.
في هذه المرحلة يخشى المواطن من تراجع الدعم الحكومي، وتخشى الحكومة من توقف دعم ومساندة المواطنين، ويظل هناك خوف متبادل يؤدي إلى توازن متبادل في العلاقة بحيث يدرك كل طرف حاجة الآخر إليه. والمحصلة عودة الثقة بين الطرفين وزيادتها تدريجياً. شكل العلاقة في مرحلة ما بعد الدولة الريعية بين المواطن والدولة لن تتميز بالاستقرار في البداية، ولكنها بعد فترة ستعود إلى الاستقرار بسبب ارتباط هذا الاستقرار بعامل الثقة. وهذا الطرح يؤكد أهمية وجود آليات فاعلة وسريعة لتجسير المواقف والاتجاهات بين الطرفين دائماً، بدلاً من تركها لقوى سياسية محلية أو خارجية، أو التلاعب الذي يتم عبر شبكات التواصل الاجتماعي. ما سيحكم علاقة المواطن بالدولة هو الحاجة المتبادلة للطرفين، بحيث تمر بمرحلة تصحيحية تتجاوز فيها الدولة نموذج الريع، ويتجاوز فيها المواطن حالة الاعتمادية والاتكالية الكلية على الدولة.