الذين يستحضرون تلك الوقائع التاريخية البائدة ويصنفوننا على أساس فهمهم المريض لها فأولئك أهل الفتنة ملعونون في كل كتاب سماوي متى ناموا ومتى استيقظوا ومتى ساروا بيننا يرمون سهام الفتنة التي لا تنام
نام جيش علي بن أبي طالب عليه السلام وجيش الزبير بن العوام وعبدالله بين الزبير والسيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً في سلام على ضفاف البصرة، بعد أن تفاهموا على جمع كلمة المسلمين حول حادثة استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه. كان المعسكران قد اختلفا على استشهاد عثمان. كان علي بن أبي طالب يرى التريث في أخذ القصاص والآخرون يرون أولويته. نام الجيشان ولكن قلب الفتنة لم ينم، وعيناها تجوسان المكان بحثاً عن شرارة نار، تحرق الماكثين فيه وأيديها تجهز سهام الغدر التي ستوقظ الجميع على بحر من الدماء، لم ينقطع بعد، وانطلقت السهام وسقط القتلى من كلا الفريقين، والتحم المعسكران كل فريق ينتقم من الآخر الذي يظن أنه غدر به. فقتل من قتل من كبار الصحابة ثم تفرقوا مرة أخرى. وبقيت سهام الفتنة حية تضرب صدور المسلمين متى استدعتها رؤوس الشياطين في كل زمان ومكان. سالت دماء سيدنا عثمان بن أبي عفان على المصحف. قتل الحيي الذي تستحي منه الملائكة، والهين اللين الذي تسامح مع مخالفيه في الدولة الإسلامية. هل لأن عثمان كان مع معارضيه أكثر مما ينبغي؟ هل ترك الفتنة تستشري نارها حتى أحرقته وأحرقت من جاء بعده؟ أم أن المؤامرة على عثمان وعلى الخلافة كانت أكبر من أن يضبطها أحد من أهل ذلك العصر فوقع أمر الله لحكمة لا يعلمها إلا هو؟ رفع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قميص عثمان بن عفان في المسجد في الشام، كان القميص ملطخاً بدم عثمان، ومعلقاً فيه أصابع زوجته نائلة، التي قطعت وهي تحاول الذود عنه، وبعضاً من شعر لحيته. كان معاوية قريباً لعثمان، فهو ولي الدم وعليه الأخذ بالقصاص. فجيش معاوية الجيوش وحشد ضد علي الذي «تمهل» في القصاص لدم خليفة رسول الله. ثم حين قتل علي وتنازل الحسن بن علي، عليهما السلام، عن الخلافة لمعاوية سكت معاوية وتنازل عن دم عثمان. هل كان معاوية طالب سلطة وحكم فقط وحين نال مبتغاه أوقف حروبه ضد معسكر علي وأبنائه؟ أم أن معاوية، وهو أحد دهاة العرب، قد رأى القتل يستعر في المسلمين والفتنة تستشري بينهم والروم تطل برأسها على ثغور الشام، تستحين الفرصة لاحتلال بلاد المسلمين، فانتهز فرصة تنازل الحسن بن علي عن الخلافة له لحفظ الدولة وضبط أمنها؟ هل استشعر معاوية المسؤولية التي استشعرها علي بن أبي طالب حين تولى الخلافة، فآثر الحكمة في مواجهة رؤوس الفتنة؟! تولى علي بن أبي طالب عليه السلام الخلافة بعد عثمان رضي الله مرغماً ورافضاً لقبول البيعة عدة مرات. وقبل الخلافة، وباب من الفتنة قد فتح على مصراعيه، وانهال على الأمة طوفان من «مرتزقة» العصر، الذين لم يكشف مصدرهم بعد. رأى علي أن الأمر أعقد من أن يواجه الفتنة بالسيف. الفتنة في فقه علي تواجه بالسياسة والدراية وفرض الاستقرار وتغيير الولاة الذين تسببوا في سخط الناس وثورتهم أولاً. لكن قتلة عثمان تسربوا إلى جيش علي دون أن يدري. ثم بعثوا الفتنة بينه وبين أصحابه في موقعة الجمل، ثم قتلوه كما قتلوا عثمان. هل كان علياً مخطئاً يوم قدر أن استقرار الأمة لا يأتي بالسيف؟ أم أن قومه لم يعينوه فالتف عليه الخوارج وقتلوه معزولاً عن عصبته في المدينة المنورة؟ من كان يرى الأمور على حقيقتها علي بن أبي طالب أم معاوية بن أبي سفيان؟ وأي الرأيين كان الأصوب والأصلح لمستقبل هذه الأمة؟ علينا أن نلاحظ أن عثمان وعلي ومعاوية حين حكموا سايسوا معارضيهم وهادنوهم وإن اختلفت النتائج مع كل خليفة. والذين انشغلوا بتلك الأسئلة سقطوا في الفتنة، وغرقوا في قاع تاريخ زادت رواسبه لأكثر من 1400 سنة. فتلك مرحلة سياسية انتقالية في تاريخ الأمة. ينتقل فيها الحكم شيئاً فشيئاً من صاحب التأييد الإلهي محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أهل الأرض المنقطعين عن الصوت السماوي، والذين يصرون علينا أن نكون جزءاً من فسطاطين مزعومين وأن ننصب خيامنا في أحد المعسكرين الصحراويين هم أحفاد «الطرف الثالث»، الذي نام أهل الجمل على نية السلام وسهروا، هم، مبيتين حرباً تدوم فينا إلى يوم القيامة. والذين يستحضرون تلك الوقائع التاريخية البائدة ويصنفوننا على أساس فهمهم المريض لها، فأولئك أهل الفتنة ملعونين في كل كتاب سماوي، متى ناموا ومتى استيقظوا ومتى ساروا بيننا، يرمون سهام الفتنة التي لا تنام.