أصعب مرحلة تمر على أي حكومة في أي دولة ريعية هي أن تضطر إلى إبلاغ شعبها أنها ستتقشف هي وستتقشفون معها في الصرف في الأيام القادمة.
فالشعوب في الدول الريعية تبقى كطفل رضيع مهما كبر عمراً أو كبر وزناً (تعداداً) تبقى معتمدة ومتكلة كثيراً على الدولة في تصريف أمورها المعيشية في دخلها ورعايتها في التعليم والطبابة والسكن والمواصلات.. الخ من الخدمات، لا تعرف كيف بإمكانها أن تستقل و«تفطم» من هذه الرعايا أجيال وراء أجيال ما لم تكن تخضع لمرحلة انتقالية تخصص لها خطة عشرية أو على الأقل خمسية لنقلها من صفة الاتكال إلى مرحلة تحرك هي الاقتصاد بدلاً من انتظار من يحركه.
تبقى شعوب الدولة الريعية تعتمد في أنشطتها الاقتصادية على ما تقدمه الدولة من وظائف حكومية ويعتمد سوقها على ما تقدمه الدولة من مناقصات حكومية، وتتحول جميع أنواع الخدمات إلى حقوق مكتسبة وأحياناً بنص دستوري!!
ورغم أن الجميع يعلم أنه عاجلاً أم آجلاً ستفطم هذه الشعوب، سواء بكيفها أو باضطرارها عن هذه الرعاية إلا أن احتفاظ سعر البترول لمؤشراته العالية في الخمسين سنة الماضية أجل قرار المواجهة وأجل قرار الفطام، وها هو قد أتى اليوم الذي أجلناه، بعجز يقال إنه قد يتجاوز 60% في عام 2017.
من أصعب تحديات الفترة القادمة ليس قرار التقشف بحد ذاته ولا إعلان إجراءاته، إنما أصعب التحديات تكمن في الكيفية التي تجعل فيها الحكومات من الشعوب «شركاء» لا «خصوم» في مهمة التقشف، هذا هو التحدي الكبير.
كيف تستطيع الحكومات في هذه المرحلة أن تجعل المواطن مستعداً ومقبلاً على هذه الفترة وعلى قناعة بأن الخطوات التقشفية ضرورة وخير له ولأبنائه من بعده وأن المسألة أننا نعيد ترتيب بيتنا لا أكثر ولا أقل؟
ما يقلقنا هي تلك المسافة في التفكير والتي تفصل بين الحراك الرسمي عن التفاعل المجتمعي، مسافة كبيرة تركت للإشاعات والتكهنات ولم تنجح التصريحات الرسمية التي صدرت منذ يوم الخميس حتى كتابة هذا المقال الساعة الخامسة مساء من يوم السبت قبل أمس في سدها، فإن ظل مستوى التعاطي بين الحكومة القادمة وبين المجتمع البحريني بهذه الدرجة الشحيحة من التبادل الفكري والحديث المباشر، فستتولد درجة من درجات السخط القابلة للتصاعد حين يأتي وقت تطبيق الإجراءات دون ما تمهيد ودون خلق روح الشراكة المطلوبة، وهنا تكمن الخطورة، لأن هذا السخط سيرتبط ويلقي بظله على الحكومة التي ستتولى هذه الإجراءات الاضطرارية أياً كان شكلها وحجمها..
لسنا أول دولة تضطر إلى مواجهة واقع اقتصادي صعب وتحديات كبيرة كهذه، بالإمكان تخطيها، وهناك دول تعدت هذه المرحلة بنجاح كبير ونهضت أفضل مما كانت عليه، لكن الدول الناجحة في هذا الامتحان هي الدول التي تحركت فيها حكوماتها مع شعبها كفريق واحد، كل فرد في المجتمع من الصغير قبل الكبير، من النساء قبل الرجال، من سائق التاكسي قبل الوزير، كل فرد كان مؤمناً ومقتنعاً وفاهماً وعارفاً بكل خطوة ستخطوها الحكومة ولديه تصور واضح وجلي لخارطة طريق للخمس سنوات القادمة، تمت مخاطبة المواطن وتم إشراكه في الحراك وبات يعرف كيف أن الدينار الذي سيوفره هنا سيصرف هناك ويعرف أن الإجراءات التي تبدو قاسية هنا اتخذتها الحكومة هنا لتحميه من ذاك السيناريو، فهل استعدت الحكومة لخلق هذه الروح التعاونية؟
تحتاج الحكومات إلى درجة كبيرة جداً من الشفافية لا مع مجتمعاتها إنما مع نفسها، تحتاج أن تقيس مؤشرات «التذمر» أول بأول ومعالجتها بجدية، الدول التي نجحت حكوماتها في المرور بهذه التحديات وخرجت سليمة كثيرة ولدى الشعوب قصص نجاح كبيرة، أما أنجح الحكومات هي التي استطاعت أن تحول هذه الأيام الصعبة إلى ملحمة وطنية تتلاحم فيها كل أطياف المجتمع مع بعضها البعض... فهل نعي حجم هذه التحديات؟!!