كم هو واضح الشعور بالانكسار ونقصان الذات في الضمير العربي (الشعبوي) تجاه مأساة المهاجرين السوريين، وتجاه السيل الجارف من (الصور) المؤلمة، وتجاه النخوة والكرم الأوروبي في الاحتفاء باللاجئين السوريين وتقديم الدعم لهم. كان من الضروري أن تنكسر الرعونة العربية أمام التقصير المخيف تجاه إخوانهم في العروبة والدين والجغرافيا. كان ضرورياً لأن تياراً كبيراً من العرب قد بدؤوا يتحولون إلى أعراب، وقد بدؤوا يتفاخرون بالترهات ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا. كان ضرورياً تشبع العرب بالخجل كي يعيدوا ترميم ذواتهم على أساس قيم (العروبة) التي لا تفرط بالكرامة ولا تترك خلفها إلا أياد بيضاء.
لقد خسرنا قضية إخواننا اللاجئين السوريين بامتياز وكسبها الغرب بامتياز من الدرجة الأولى. وهذه حقيقة يجب تثبيتها والبناء عليها من أجل مناقشتها نقاشاً موضوعياً يحافظ على جلد الذات العربية، وهي تستحقها، في هذه المرحلة. وكي يقرأ في الوقت نفسه موقف أوروبا قراءة صحيحة. فهل الأمور تبدو كما هي عليه؟ هل تعكس الصورة حقيقة القضية؟ أم أن ثمة أمر ما يدبر بليل؟ كيف انفجرت، فجأة، قضية اللاجئين السوريين المهاجرين لأوروبا؟ من هم سماسرة الهجرة البحرية إلى أوروبا؟ حسب التقارير فإن أغلب الرحلات البحرية إن لم يكن كلها انطلقت من تركيا. كيف سمحت تركيا الدولة القوية بترتيب رحلات تهريب لعشرات الألوف من المهاجرين عبر سواحلها؟ وكيف سمحت أوروبا لمئات القوارب الاقتراب من شواطئها المحصنة أمنياً؟ نحن نتكلم عن مئات الألوف تمكنوا من الخروج من تركيا ودخول أوروبا أمام رصد كل الأجهزة الأمنية. فالقضية ليست تسرب العشرات!!.
ثم كيف قررت أوروبا قبول تقاسم مئات الآلاف من المهاجرين وهي القارة التي عانت كثيراً من قضايا المهاجرين ومشكلاتهم؟!!. وليس من الحكمة تقبل الضخ الإعلامي الغربي لقضايا اللاجئين دون تفكر، فالصور المؤلمة التي انتشرت، وهي حقيقية، كان لها تأثير قاصم في القضية ولكنها تبدو (محكمة الإخراج) متسلسلة مترابطة تصب في رؤية فكرية ووجدانية متسقة. فرغم قسوة صورة الطفل عيلان الكردي الذي قذف به البحر ميتاً إلا أن فيها ترتيباً قد يبدو معداً ومدروساً لجعلها تفجع العالم بصورة طفل جميل مات غرقاً محتفظاً بحذائه وترتيب ملابسه وكأنه خارج إلى نزهة في الحديقة!! ثمة شيء مريب، ثمة أمر يصعب تقبله بهذه البساطة؟
التحليلات التي عمدت إلى تفسير الموقف الأوروبي، خارج رومانسية الإنسانية. وضعت عدة قراءات؛ إحداها أن أوروبا تدرك أنها قارة عجوز تفتقر للشباب. وأن نسبة ليست قليلة من مصادرها للحصول على الفئة الشابة هي من طالبي الهجرة الذين يحملون معهم مشكلات لا حصر لها. وقد رأت في اللاجئين السوريين، والعراقيين من قبلهم مهاجرين نوعيين يمكنها الاستثمار فيهم. فهم فئة متعلمة ومنفتحة وقادمة من دول مدنية متقدمة ولم يكونوا بحاجة للجوء لأسباب المعارضة السياسية أو الهروب من أحكام قضائية ولكن الحرب فرضت عليهم كما فرضت على اللبنانيين قبلهم البحث عن مكان آخر أكثر أمناً واحتراماً. ولذلك قررت أوروبا انتهاز الفرصة وتوطينهم.
القراءة الثانية مفادها أن تفجير قضية اللاجئين لا يخرج عن استمرار المؤامرة على سوريا وتدميرها وهدم المنتج الحضاري وتغيير الهوية السورية بتدمير الآثار والاقتصاد وتفريغها من الشعب الأصلي لإحلال شعب (دولة الخلافة) فيها الذي يتقاطر على سوريا من مختلف أصقاع الأرض ويحمل مختلف الجنسيات تحت ذريعة الجهاد.
القراءة الثالثة تفسر القضية بالاتجاه نحو تصعيد الأزمة السورية بدفع مأساة المهاجرين إلى الواجهة لبيان أن سوريا لم تعد آمنة وأن على المجتمع الدولي التحرك أكثر وإرسال قوات برية (عربية) إلى سوريا لتحسم الصراع وحل المشكلة الإنسانية فيها. وإرسال قوات عربية هو مطلب عبر عنه أكثر من مسؤول أمريكي وعلى رأسهم الرئيس أوباما الهدف الأساسي منه إغراق المنطقة في مستنقع القتال وتوريط كل الجيوش العربية في حروب استنزاف لا تنتهي.
وأياً كانت الأسباب والمسببات فكلها تؤكد أننا فرطنا في دعم الشعب السوري في محنته وتركناهم للقتل على يد الدواعش وللبراميل المتفجرة وللغرق في البحر وللتسول في أصقاع الأرض. وتلك صفحات سوداء في التاريخ العربي لن تمحى. وستذهل الأجيال القادمة التي ربما تنجح في ترميم عروبتها من التشوهات التي لحقت بها، ستذهل وهي تطالع تاريخها، من التخاذل العربي والفرجة المجانية على ملايين السوريين وهم يواجهون العالم كله لوحدهم.