يقول الشاعر الفلسطيني محمود درويش في رائعته مديح الظل العالي «هي هجرة أخرى.. فلا تكتب وصيتك الأخيرة والسلاما.. سقط السقوط، وأنت تعلو.. فكرة.. ويداً.. شاما! لا بر إلا ساعداك.. لا بحر إلا الغامض الكحلي فيك».
يهاجر الفلسطيني من مكان لآخر ويعزي نفسه بأنه يحمل وطنه في شغاف قلبه، بيد أن الهجرة بطعم الموت والعلقم، ومع كل هجرة جديدة لا يلم الشمل سريعاً ولا تلتئم الجراح أبداً، فيما أهدت الحداثة هجرتنا الجديدة لم شمل عبر العالم الافتراضي لم يتوفر لآبائنا الذين شردتهم نكبة عام ثمانية وأربعين.. وحدث أن تعرض بعضنا لهجرة من العالم الافتراضي! وإليكم القصة..
لم شمل افتراضي
بعد الهجرة الجديدة الناجمة عن النكبة التي تعرض لها مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوب دمشق، انتشر أبناء اليرموك المعروف بعاصمة الشتات الفلسطيني في كل بقاع الأرض، ومنذ حوالي أربعة أشهر تلقيت دعوة عبر «واتساب» للانضمام إلى مجموعة اسمها «الوفاء لمخيم اليرموك»، غمرتني الفرحة بلم الشمل الافتراضي مع مجموعة كبيرة من أبناء مخيمنا الشهيد، مجموعة كبيرة ومتنوعة من أبناء المخيم؛ عمال ومثقفين صحافيين محامين مهندسين وأطباء ورياضيين وناشطين بالعمل الإغاثي، ومن كل ألوان الطيف الفلسطيني، متواجدين داخل المخيم المحاصر منذ سنتين، وفي دول الجوار وفي أوروبا وعموم دول اللجوء التي وصلت إليها أشرعتهم، يجمعهم هم واحد هو قضية المخيم المحاصر وشهداء الجوع، وأخبار اللاجئين وهمومهم، خاصة في دول الجوار.
عكست المجموعة واقع المخيم بتراثه وقصصه الممتعة والمحزنة، فما بين الجد والهزل كنا نستعيد القصص والحكايات القديمة، وكيف قمنا بتعمير المخيم حتى غدا مدينة صغيرة بكل معاني المدينة، وكيف تمكن المخيم من تشكيل الرأي العام الفلسطيني في عدة محطات كفاحية بعد نكبة عام ثمانية وأربعين وحتى نكبة المخيم أواخر عام 2012. ومع كل خبر يخص المخيم أو اللاجئين أو المهاجرين كانت تدور نقاشات أعمق من تلك التي تحصل في الندوات وحلقات البحث، عكست النقاشات وعياً غير مسبوق بقضايا وأزمات عالمنا المعاصر، نتيجة التطور الحضاري الذي مثله مخيم اليرموك إذ كان منارة للعلم والثقافة، وكان المتنفس لكل مفكري ومثقفي دمشق بمنتدياته وحضوره على كل المستويات.
هجرة ارتدادية
ذات مساء احتدم النقاش داخل «الجروب» وتناول قضايا متعددة تهم كل إنسان عربي، الحرية والديمقراطية ومعاني العدل الاجتماعي والحياة البرلمانية والدستورية، مروراً بالضمير الاجتماعي، وسبل وقف نزيف الدم العربي، ودائماً فلسطين والقدس في قلب الحوار، لم تخل تلك النقاشات من مرح وروح دعابة أو من خبر حزين يخص الموت في أعالي البحار، في الصباح التالي لتلك الأمسية الثقافية عبر مجموعة الوفاء لمخيم اليرموك، حصل أمر غير متوقع، إذ فجأة بدأت تهبط على أجهزة الموبايل آلاف الرسائل والمحادثات القديمة للمجموعة، كان أمراً يشبه الهجوم المذهل استشعر أعضاء «الجروب» الخطر على أجهزة الهواتف الخلوية، فتمت المبادرة إلى حذف المجموعة القديمة، وتشكيل مجموعة جديدة أطلق عليه اسم جديد، كان الأمر أشبه بهجرة افتراضية، فطوال اليوم كنا نبحث عن بعضنا البعض، فلان يقول أين فلان وما هو رقم فلان وهكذا..
نعم كان الأمر صعباً ولكنه ليس كصعوبة الهجرة الحقيقية، عندما يأتي الخطر الداهم فجأة وترحل الأسر دون سابق إنذار ليصبحوا هائمين على وجوههم في الطرقات دون أية وجهة معروفة، ولا تتيح لهم الأيام فرصة السؤال عن بعضهم البعض إلا بعد مستقر، نعم حصل ذلك ذات صباح في مخيم اليرموك وعدة مدن وقرى وأحياء في سوريا، حتى تجاوز عدد اللاجئين والمشردين داخل سوريا وخارجها حاجز التسعة ملايين إنسان، جلهم في دول الجوار، أقصى أحلامهم الحصول على فرصة اعتلاء قوارب الموت وصولاً إلى أوروبا والأمريكيتين.
قصص الموت في أعالي البحار لا تحصى ولا تعد، فهذا طفل لم يبلغ الحلم فقد والديه وأشقاءه في رحلة الموت، وتلك امرأة فقدت زوجها وأبناءها، وذاك رجل فقد بعض أولاده لينقذ بعضهم، نعم لم تكن الهجرة عبر العالم الافتراضي مثل الهجرة الحقيقية لكنها تستفز الذاكرة القريبة منها والبعيدة عن هجرات حدثت وأخرى مستمرة، دون أن يلوح في الأفق العربي نوع من الانفراج في ملف اللاجئين والمهجرين، الذين يأتي ذكرهم في آخر سلم أولويات السياسة، هذا إن تم ذكرهم، أخال أن العالم العربي على أعتاب انفجار ثورة لاجئين بكل معنى الكلمة، ولاجئين من فلسطين ولاجئين فلسطينيين من سوريا ولبنان، ولاجئين سوريين، عراقيين، ليبيين، يمنيين، مصريين، وماذا بعد؟ .. ومن ذا الذي سينتصر وسط حطام الشعوب، وماذا بعد إلى متى ستشرب الأيديولوجيا من دماء ودموع هذه الملايين من أمة «يطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً»، هذه الأمة يموت فيها الناس جوعاً وقهراً وغرقاً وعطشاً، لمن سيكون ولاء هؤلاء المساكين بعد هذا الخذلان الكبير.. وكدأبهم يلوذون بقول «يا الله مالنا غيرك يا الله».