ما قاله الجنرال الأمريكي أديرنو عن أن تقسيم العراق، رسمياً، قد يكون الحل الوحيد لوقف العنف الطائفي الفالت من عقاله، ينطبق أيضاً على سورية الغارقة في دمائها، وعلى لبنان الذي يعيش حالاً من الاهتراء السياسي والاجتماعي والأمني لن تلبث أن تتفجر عنفاً، علماً أن التقسيم لن يؤدي سوى إلى مفاقمة الاشتباكات الأهلية بدلاً من وقفها.
فعندما تنحدر السياسة إلى أدنى مستوياتها أو تضمحل، وتتراجع الولاءات إلى ما قبل الدولة والاجتماع، ويعم الفساد والإفساد، تنهار تدريجاً فكرة العيش المشترك، وتسقط الأطر التوافقية للعلاقات بين الأطراف الأهلية المصوغة في دساتير وقوانين، وتتحول كل جماعة إلى «كيان مستقل»، ويسود العنف وسيلة للذود عن حياض «الشعوب الجديدة» وحدودها، بما هي انقسامات إيديولوجية ومصلحية وجغرافية، مدعومة بذرائع وحجج بدائية تؤسس لحروب متناسلة.
وكلام الجنرال الذي خبر الوضع العراقي سنوات يعني إن فكرة التقسيم باتت تراود أذهان المسؤولين الأمريكيين أكثر فأكثر، مع فشل الحلول المرتجلة والجزئية التي يخرجون بها من وقت لآخر، أو يفرضونها على الحكام في بغداد، أو يروجون لها عند الإيرانيين المهيمنين على قرار بلاد الرافدين، ومع العجز أو اللارغبة في إيجاد حل لسورية المقسمة بحكم الواقع، ومع اللامبالاة الشاملة إزاء ما يعيشه لبنان من انهيار على كل الصعد.
وهي فكرة سبق لصحيفة «نيويورك تايمز» أن نشرت مقالاً عنها لباحث أمريكي، وخريطة مفصلة لتصوره عن تقسيم دول عربية في مقدمها العراق وسورية، في (سبتمبر) 2013، أي قبل بروز «داعش» في العام التالي وإعلان «دولته».
لكن من الواضح أن شعوب الدول الثلاث المعنية وأنظمتها لم تكن في حاجة إلى الأفكار الأمريكية ولا إلى أي دفع خارجي للوصول إلى حال التشرذم الحالية، كونها توفر بنفسها شروط الانقسام بأشكاله المتنوعة، وتمتلك أدواته الفاعلة، ولا تعوز مكوناتها الرغبة في الانتقام من بعضها بعضاً، بعدما تساكنت قسراً منذ ترسيم خرائط سايكس - بيكو، وكان بعض نخبها يظن أنه سيتمكن يوماً من إسقاط تفاهم فرنسا وبريطانيا على توزيع المكاسب في المشرق الموروث من العثمانيين، ومن إزالة الحدود بين دوله المستحدثة على طريق إقامة «وحدة» متخيلة، فإذا بهذا السقوط يفسح المجال أمام المزيد من الكيانات الأصغر التي تحركها فكرة «النقاء» الديني والمذهبي والعرقي.
أما عمليات التجميل التي تقودها حكومة عراقية ناقصة التمثيل ومرتهنة القرار، فلن تقوى على التشوهات المتراكمة والمتأصلة في النفوس والعقول، ولن تستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بعدما باتت تباعد بين طوائف العراق وإتنياته جبالاً من الجثث وأنهاراً من الدماء، ولن تنجح في جعل تهديد «داعش» يلغي استحكامات المرجعيات والزواريب ولصوص بغداد. ذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن يحكم العراق باسم «الأكثرية» يخاف أن يفقد كرسيه إذا لم يمتثل لقرار إعادة كتابة تاريخه بقلم أعجمي.
وفي سورية النازفة ألف «دولة» و«دويلة» تتنازع شعباً ممزق الأوصال، يحفر القتل اليومي خدوداً عميقة في جسده وروحه منذ أربع سنوات، فيما أصحاب المبادرات يتلهون بإبراز دهائهم وحنكتهم في الصياغات المحكومة سلفاً بالفشل والإجهاض حالما تقترب من قصر الطاغية وأيدي جنرالات طائفته المدججة.
أما لبنان الذي يديره «حزب الله» بالوكالة عن الولي النووي، فيتمدد الترهل إلى سائر مفاصله مبشراً بسقوطه التام في الفوضى والتسيب، بعدما تحول رهينة لنزوات الطوائف والمذاهب والعصابات التي خطت حدوداً بين «شعوبه»، بحيث لم يعد يمكنها، مجتمعة أو منفردة، السيطرة حتى على نفاياتها، ولم تعد تثير قلق أحد ولا اهتمامه.
دول ثلاث على طريق الزوال وتناثر خرائطها، بينما العالم يتفرج متواطئاً أو شامتاً أو باحثاً عن فرص.
- عن جريدة «الحياة»