في نهار يوم 14 مايو 1948 خرجت سيدة يهودية في بغداد تصرخ أمام منزلها إلى أن تجمع أبناء الحي وسألوها حول مصابها، فظلت تصرخ وهي ترفض وتشجب إعلان الدولة الإسرائيلية، وتقول جاءت نهاية اليهود.. جاءت نهاية اليهود.
بعد تلك الصرخات من السيدة اليهودية العراقية شهدت منطقة الشرق الأوسط جيلين من الثورات الشعبية، ويبدو أننا سندخل الآن المرحلة الثالثة من هذه الأجيال.
المرحلة الأولى من ثورات الشرق الأوسط بدأت مطلع القرن العشرين، وهي الثورات التي خاضتها شعوب المنطقة من أجل نيل استقلالها الوطني، وظلت مستمرة حتى منتصف سبعينات القرن الماضي باستقلال جميع الدول العربية.
أما المرحلة الثانية فهي ثورات الإصلاح السياسي، وهي الثورات التي ظهرت في العديد من الدول العربية وطالبت بالإصلاحات السياسية، أو طالبت بإسقاط النظام السياسي. رغم أن هذه المرحلة انتهت وصارت مطالب الإصلاح السياسي مجرد شعارات بعد أن شاهدت الشعوب العربية حجم الدمار والفوضى وعدم الاستقرار السياسي والأمني، وزيادة التدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في الشؤون الداخلية، وتزايد نزعات التطرف وزيادة دور الجماعات الراديكالية المتطرفة.
الشعوب العربية في المنطقة تبدلت أولوياتها، فمن كانت أولويات تتعلق بالديمقراطية والإصلاح السياسي إلى مطالب تتعلق بتحسين مستوى المعيشة، وتوفير الأمن قبل ذلك، ومن يتخلى عن هذين المطلبين فإن شرعيته ستظل مهزوزة وستنتهي سريعاً لأنها ستدخل مرحلة ثورات الشرعية. فتغيير النخب السياسية العربية الحاكمة سيكون سريعاً إذا ما تقاعست إحداها عن توفير الأمن، وتحقيق الحد الأدنى من مستوى العيش الكريم.
في مرحلة ثورات الشرعية، لن تطالب الشعوب بصلاحيات دستورية، أو برلمان ذي صلاحيات، أو رئيس حكومة منتخب، أو بأحزاب قوية، بل ستطالب بأن يوفر لها من يحكمها مقومات العيش، والأمن معاً. وعندما تتأخر الحكومات في تحقيق ذلك، تشتعل الثورة الشعبية ومن الصعوبة بمكان إيقافها. ونموذج الحالة العراقية حالياً يعكس هذا النوع من الثورات، فرغم التردي الأمني، وهيمنة طهران على مفاصل الدولة ومؤسساتها، وانتشار الجماعات الراديكالية المتطرفة، والحرب الأهلية، إلا أن المواطنين ابتعدوا عن هذا كله، وثاروا على حكومة العبادي مطالبين باجتثاث الفساد المستشري في الدولة العراقية، وتوفير الحد الأدنى من الخدمات التي يستحقها المواطن العراقي.
حتى الدول التي طالها التغيير خلال السنوات الخمس الأخيرة عبر ثورات شعبية ليست مرشحة لمزيد من الاستقرار إلا إذا استطاعت النخب الحاكمة الجديدة من تحقيق التطلعات الشعبية، فالشرعية هنا شرعية الإنجاز وليست شرعية صندوق الاقتراع، هذا ما يميّز المرحلة المقبلة لمجتمعات دول الشرق الأوسط.