حين استمعت لاعترافات المقبوض عليهم في جريمة تهريب المتفجرات قبل أسبوعين كنت استمع لحديث مكرر سمعته عشرات المرات منذ 1995 إلى اليوم، لا جديد، تغيرت الوجوه خرج الجيل الثاني من المفجرين، آباؤه قبل عشرين عاماً زرعوا العبوات وفجروا وحرقوا مثله، بعض المحلات مازالت لم ترمم بعد حرائقهم، عملية (الريفل) مستمرة منذ عقدين يقبض على مجموعة وتؤهل أخرى ويزج بالتي تليها بعدها.
عثرت على لقاء صحافي أجريته مع إحدى ضحايا التفجيرات عام 1996 في جريدة الأيام، الضحية اسمها نوال زرناها في المستشفى مع مجموعة من الصحافيين رتبت وزارة الداخلية لنا اللقاء، نوال كانت عروساً جديدة مضى على زواجها خمسة أشهر حين انفجرت بها العبوة وفقدت يدها وجنينها وتشوهت ساقها، الحادثة جرت بعد أن طلب «علي» زوج نوال منها أثناء زيارتها له في السجن أن تسكب الماء على لفافة وضعها في سطح منزلهما، وحين سحبتها انفجرت العبوة فيها فقتلت ابنه الجنين وبترت يد زوجته (آخر اللقاء الذي جرى في مستشفى السلمانية سألتها ألا تودين أن تصرخي تعترضي أجابت بيت أبوي ناس في حالنا لا نريد مشاكل مع بيت أهل علي حتى لا تحدث العداوة بين العائلتين لو نقول شدي ها شبوا فينا ما نقدر نقول شي) إنهم يجبرون أهل الميت أن يفرحوا لأنهم يقولون إنه شهيد، قلت لها مطلوب إذاً منك أن تفرحي لأن يدك بترت وجنينك مات؟ هم يقولون (إن كل شي يهون من أجل شسمه هادا.. البرلمان) ما الذي تغير؟
عشرون عاماً من الإنكار والكذب، عشرون عاماً من التضليل ومن التزوير، عشرون عاماً من المتفجرات المهربة والمصنعة تزرع الواحدة تلو الأخرى، عشرون عاماً من المجموعات الإرهابية المدربة ينتهي جيل ويخرج جيل آخر، والدولة تكتفي بالقبض على قرابين التضحيات المنحورة على مذبح الولي الفقيه، ولا تغلق المصنع الذي يخرجهم.
لذا لم يعنني كثيراً معرفة تفاصيل جريمة التهريب التي عرضها التلفزيون، لأن الدولة لم تغير أسلوبها القديم، كنت أود أن أرى إدراكاً من الدولة أن المشكلة ليست في هؤلاء، كنت أتمنى أن تبدأ الدولة علاج المشكلة بعرض أفكار وعقليات هذه المجموعة في السؤال عن الأسباب والدوافع التي دفعتهم لارتكاب هذه الجريمة، فهنا مخزن الأسرار، هنا اللعبة تدار، هنا يجب أن أسمع الاعترافات التي يجب أن توضع للنقاش العلني، هنا يجب أن أستفيد من إعلامي، التخريجة السياسية والتخريجة الشرعية هي التي يجب أن توضع موضع البحث العلني وتضع الكل أمام مسؤولياته المباشرة، هنا الفتيل الذي يبطل (الريفل)، الشباب يجاهدون جهاداً دينياً، الشباب أخذوا معهم (فطورهم) و(صلوا) هنا مخزن الأسرار في هذا الفطور وهذه الصلاة المصحوبة بالسي فور، كيف اجتمع الضدان؟
ظلت الدولة تدير معركتها الإعلامية مع عملاء إيران في محيط موقع الجريمة فقط، إنما مسرح الإعداد للجريمة بقي بعيداً عن اهتمام الدولة رغم أنه هو الذي يجب أن تركز عليه إعلامياً هو ذاك المطبخ الذي حشيت به العقول إن كان منبراً دينيا أو سياسياً أو ثقافياً وإعلامياً وفي هذا المسرح تغيب الدولة تماماً لمدة عشرين عاماً.
أي فكرة تلك التي اقتنعت بها تلك المجاميع بأن المتفجرات هي من الدين؟ ما هي التخريجة الدينية التي دست في عقول هذه المجاميع لتقنعهم بأن جرائمهم فريضة دينية؟ هنا لا بد أن تضع الدولة ثقلها وتستخدم كل أدواتها و(تبط الدمل) وليكن نقاشاً علنياً.
تلك الأفكار ظلت كالعفن كالفطريات سنوات في درجة حرارة حافظة ومناسبة لها تعيش وتترعرع في الظلام في السراديب في الأقبية والآن عبر الإنترنت يلتقط منها صغار العقول ومحدودو الذكاء مخزونهم الفكري والثقافي هو ما يتلقونه عبر تلك الأقبية إلكترونية كانت أو منبرية يفخخون به عقولهم وأحزمتهم لا فرق، بين داعشي فخخ حزامه فقتل أباه، وبين زوج نوال الذي فخخ سطح منزله فقتل جنينه، ومثلهم من فخخ تفجير سترة مؤخراً، عقولهم هي مكمن السر، وأفكارهم المتداولة بحرية دون اعتراض ودون نقاش ودون تفنيد ودون ملاحقة فكرية تعريها لأكثر من عشرين عاماً هي منبع ومصدر ومورد وموطن الإرهاب، وإن ظلت الدولة بعيدة عن تصور يكسر هذه الدائرة المغلقة فإننا أمام عشرين عاماً جديدة.