تهدف السرديات المصنوعة إلى خلق تصورات شمولية لقضية ما غير قابلة للنقض أو المناقشة، وهي تحتاج إلى أسس تمكنها من بناء دعائم السردية عليها؛ فالسرديات المصنوعة لا تنشأ، من حيث المبدأ، من فراغ، ووظيفتها إيجاد غطاء (شرعي) لتمرير أجندات خاصة للطرف المنتج لها، وهي تحتاج إلى وسائل بث وترويج وترسيخ يعتبر الإعلام أحدها وليس أوحدها.
من نماذج السرديات التي تم صناعتها وترويجها في الوطن العربي لتمرير مخططات خطيرة في المنطقة سردية، امتلاك الرئيس السابق صدام حسين للسلاح النووي. استندت مشروعية تلك السردية المصنوعة على خطأ الاحتلال الكويتي للعراق ووجود مفاعلات نووية في حوزة العراق وما تم روايته عن استخدام السلاح الكيميائي ضد الأكراد، وهدفت السردية إلى إسقاط نظام صدام حسين تمهيداً لتفتيت العراق وتدشين المرحلة الطائفية في المنطقة كلها، ولم يكن المستهدف من تلك السردية الشعوب العربية؛ فلن يقبل العرب بحرب أمريكية على العراق واحتلالها؛ بل كان المستهدف الشعوب الغربية والرأي العالمي الغربي الذي تمكنت الحكومة الأمريكية من انتزاع مشروعية احتلالها للعراق عبر وسائل الإعلام ومجلس الأمن والكونجرس وغيرها، وكانت الأداة الفاعلة هي الوكالة الدولية للطاقة التي تمكن جواسيس أمريكا عبرها من رصد كل المواقع الاستراتيجية وتدميرها فيما بعد.
وبعد تبدد أكذوبة السلاح النووي واعتراف كولن باول بأن الإدارة الأمريكية كذبت على مجلس الأمن بأن الوثائق والأفلام التي تم عرضها عن تقدم الجيش العراقي خارج حدوده قد تم فبركتها، ولكن لم يعد مجدياً محاسبة الكاذبين والعودة إلى ما قبل 2003، فقد حققت السردية هدفها وانشغل العراقيون بتداعيات ما بعد الاحتلال والاقتتال الطائفي.
السردية الثانية هي دموية العقيد القذافي وعداؤه للإسلام، واستندت هذه السردية على الشخصية (الغربية) للقذافي والتصريحات الصادمة له والعداء الحقيقي مع الجماعات الإسلاموية، كما ساهم البناء (الغرائبي) لنظام حكم القذافي من خلق أساطير حوله تم قبولها بمنتهى السهولة؛ منها تبنيه للعديد من الأيتام الأفارقة ليدافعوا وليكونوا جيشاً خاصاً به، واستعانته أثناء الثورة بمرتزقة أفارقه ووقوع عمليات اغتصاب ممنهجة أثناء الثورة، والتطرق لعلاقاته الجنسية المتعددة والشاذة!!
بعد سقوط القذافي وقتله القتلة الشنيعة لم يظهر أبناء القذافي الأفارقة بالتبني، ولم يتم القبض على المرتزقة الأفارقة، ولم يتم التحقيق في حوادث الاغتصاب أثناء الثورة ولم.. إلخ؛ بل ظهرت تسجيلات تفسر أطروحاته الغريبة عن الدين وتسجيلات لمشايخ دين حرضوا على القذافي بتهمة الزندقة يمتدحون منعه التام لبيع الخمور وتداولها في ليبيا، ولم يعد مجدياً البتة النقاش في حقيقة العقيد القذافي وسردية لوكربي وغيرها من القضايا التي استغلت لتدمير ليبيا، فقد سيطرت الجماعات الداعشية والقبلية على ليبيا وصارت مهددة بالتقسيم، واستولى الناتو على نفطها وصار الواقع أهم وأولى بالنقاش والتحقيق والنضال.
سردية العداء للدين والمذهب كانت من أهم سرديات ما سمي بالربيع العربي، وهي ذاتها التي استخدمت في إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، استندت تلك السردية إلى العلاقات الوثيقة بين طهران ودمشق وتحول بعض مدن سوريا، مثل السيدة زينب إلى مراكز دينية مركزية قوية للمذهب الشيعي، وكذلك العداء الصريح بين النظام السوري وبين جماعة الإخوان، وسابقة التوريث الخطيرة التي أقدم عليها حزب البعث والتي لم تحدث في أي نظام جمهوري؛ وهي تولية الابن (بشار) بعد الأب (حافظ) الأسد. وقد تم صناعة أفلام لأناس يطلب منهم شهادة بأن لا إله إلا بشار الأسد، وتم ترويج أن الجيش فقط للعلويين وغيرها من الحكايات التي ليس لها أصل من الصحة، وبعد سقوط نصف سوريا في يد داعش لم تعد لتلك الحكايات أي معنى؛ فالمهم الآن هو تحرير المدن السورية من الخلافة المتخلفة لجماعات الدواعش وحماية باقي سوريا من المصير المخيف الذي يعيشه شعب ولاية الرقة وإدلب والموصل والأنبار في العراق.
وليست الأمثلة السابقة في معرض الدفاع عن أي من الرؤساء السابقين أو الانتصار لنظام سياسي بعينه، ولكنها تسلط الضوء عن منهجية صناعة السرديات لاختراق الوطن العربي وتدميره، وتبين أن السرديات المصنوعة لها أساس موضوعي وتبنى على أخطاء الأنظمة والمشكلات العضوية التي خلفتها في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الوطن. وهو الأمر الذي يساعد في خلق تصورات كاذبة، ولكنها قابلة للتصديق والترويج. ومن ثم يتم تمرير المشروعات التفتيتية الخطيرة ضد الوطن العربي.
وهذه ليست إلا نماذج يمكن القياس عليها للكثير من السرديات المروجة في الوطن العربي التي تمهد لكل نتيجة كارثية تأتي بعدها بأمر جلل.