بعض البشر في هذه الحياة لا يتكررون؛ قد يأتي شخص يشبههم بنسب مختلفة، قد يكون أفضل منهم أو أقل منهم، يشبههم في بعض الصفات الإنسانية ويختلف عنهم في صفاتهم المهنية أو الاجتماعية، لذا بعض البشر كما البصمات لا تتشابه؛ هكذا كان سمو الأمير سعود الفيصل رحمه الله.
الأمير الذي ولد في منطقة طائف الجبلية، لعله أخذ من معالم وجغرافية مدينته طباعه الجبلية الشامخة القوية، كان جبلي النوع ثابتاً في مواقفه ذا عزة وهيبة وحضور لافت، الجبل الذي دائماً ما يكون واضح البروز ينافس في طوله واجهة السماء، هكذا كانت صفات الفقيد رحمه الله. كان بارزاً وعلماً في عالم الدبلوماسية ينافس في جولاته واجهات السياسة وفضاءاتها، ويصد رياح المؤامرات التي تحيط بدولته من كل صوب؛ كان باختصار أسطورة جبلية في عنان الكون.
عرفه العرب والمسلمون وهو يناصر قضاياهم ويكمل مسيرة والده الملك فيصل رحمهما الله، لذا بعض المقربين منه كانوا يقولون إنه يشبه أباه، لم يكن شبلاً من ذاك الأسد؛ إنما ولد أسداً من ظهر أسد. لم يحتج للكثير لكي ينمو سياسياً؛ فقد ولد وهو يحمل جينات الفطنة والحنكة التي تعد شيئاً من فطرته، تميز بمهارة الحفظ السريع، وإلى جانب العربية كان الأمير يجيد سبع لغات، وفي عالم السياسة كان يجيد معظم لغات السياسة وفنونها، لذا كان سموه يتقن مهارة الصمت والكلام، الحكمة ترتبط أحياناً بالصمت والأمير يتقن متى يصمت فيكون لصمته قوة ورسالة ومتى يتكلم فيكون كلامه درساً وتاريخاً يؤرخ مواقفه، جمله كانت مدرسة يتعلم منها القوة والشجاعة.
كما كان يتقن مهارة المد والجزر في ما يخص المواقف والقضايا وتوجيه الرسائل السياسية المحملة بأكثر من معنى ودرس، وهذا دهاء السياسيين الذي كان يتقنه الأمير رحمه الله، لذا قال عنه الرئيس العراقي صدام حسين رحمه الله: «سعود الفيصل أدهى من قابلت في حياتي.. حينما كنت في حرب إيران جعل العالم معي، وبعد أن دخلت الكويت قلب العالم ضدي، وكل ذلك يكون في مؤتمر صحافي واحد، ولو كان لدي رجل كسعود الفيصل لحكمت العالم»، فليس بمستغرب بعدها أن يلقب بـ»داهية العرب».
كان فارساً بارعاً رغم أن الأرض من حوله مليئة بالصراعات والمتغيرات، هذا الفارس كان يعرف كيف يحافظ على هدوئه واتزانه الدبلوماسي والسياسي في جميع المؤتمرات التي كان يحضرها للتشاور والتفاوض، لذا استطاع أن يمر ببلده من بين جميع المتغيرات والتحديات التي تواجهها المنطقة بمهارة وبراعة وهو يقود السياسة الخارجية للسعودية، كان يجيد التعامل مع المتغيرات كما يتعامل الفارس مع فرسه يعرف متى يجعلها تنطلق وتسابق ومتى تخفف من أقدامها.
مواقفه العربية والإسلامية درس وقدوة لكل عربي ومسلم في عدم التهاون في ما يخص مناصرة قضايا العرب والمسلمين، عرف بمهارة التحليل وبعد النظر، لذا كانت تخميناته السياسية في الغالب تنجح وتصيب، ولذا كان عندما يرسم السياسة الخارجية للسعودية كان يرسمها بريشة فنان فطن وحذر.
لعل من أبرز مواقفه في ذلك عدم تفاؤله بالحرب على العراق التي كشفت بعدها أن له نظرة ثاقبة للأمور، كان دائماً ما يطلق تصريحاته التي تبين أنه يرى أن الحرب عليها تعني أن أمريكا ترغب في استخدام بغداد كمنصة انطلاق لتغيير العالم العربي، وقبل غزو العراق وأمام ما قاله الأمريكان «إنكم تخشون الديمقراطية في العراق»، رد عليهم «نعتقد أن القادم للعراق هو قبعات جيفرسون؛ وماذا عن العمائم؟»، وقال بعد الغزو «أيها الأمريكان لقد قدمتم العراق للإيرانيين على صحن من ذهب!»، كما عرف بمناصرته للقضية السورية، ولعل تصريحه الجريء في القمة العربية عندما حمل روسيا مسؤولية ما يحدث من مآسٍ في سوريا يختصر مواقفه.
عرفه البحرينيون أكثر وهو يقترب من قضيتهم الأمنية عام 2011 حينما وجه جملته المشهورة: «أي زورق إيراني يدخل حدود البحرين أو الخليج ليس له رجعة لإيران!»، تحامل على مرضه كثيراً وهو يتابع نصرة العرب أيام الربيع العربي وهندسة أمن الخليج العربي وحفظ استقراره من مد المؤامرات الدولية على المنطقة، وتحامل أكثر وهو يتابع قضية البحرين ويدافع عنها، ولعل تصريح وزير خارجية البحرين المثير حينما قال «كان يعتبر وزير خارجية البحرين على المستوى العالمي خلال أحداث 2011»، وإن حاول البعض تحويره لمنحنيات وأبعاد أخرى إلا أنه كان حقيقة، فأمن البحرين من أمن السعودية الشقيقة والخليج برمته والعكس، وما كان في تحركاته لنصرة البحرين إلا لأنه أحد ولاة أمر الخليج العربي، فإن كان للبحرين كدولة سيادة فالحب والعروبة للأوطان العربية ليس لهم سيادة وقد كان محباً للبحرين وأهلها.
كان سنداً للبحرينيين، فقد سخر كل تحركاته السياسية وقتها للدفاع عن البحرين وأهلها، ومن أجمل تصريحاته حينما قال: «إيران لا دخل لها بما تقوم به البحرين والسعودية والمشاورات حول الاتحاد تخصنا ولا تخصها!».
ولعل من المفارقة، أن طائرته التي حملته طيلة سنوات عمله الكثير بالقضايا المعقدة والتي كان يباشرها وهو فيها وتعتبر رفيقة دربه السياسي، تعود اليوم بجثمانه في رحلتها الأخيرة معه.. في رحلة الوداع بينها وبينه.
سعود الطيب والكرم.. سعود السياسة والعلم.. سعود العروبة والقيم رحمك الله وأسكنك فسيح جناته.. البحرين وشعبها لن ينسوك فمكانتك في القلوب باقية.