لست باحثاً في تاريخ الحركات الإسلامية؛ لكن ما يهمني ألا تنغص تلك الأحزاب على حياتنا وتستغفلنا باسم الدين وتتسلق على أكتافنا، فمنهجية ونظرية جل تلك الأحزاب هو إقامة شرع الله وأن الحاكمية لله وينبغي تخليص الشعوب من الطواغيت وإقامة العدل، وسيل من تلك العناوين البراقة التي تستهوي قطاعاً كبيراً من الشباب والمضطهدين.
لكن تلك الأفكار التي سطرت في أمهات كتبهم وتم تداولها لعقود، ما أن تهيأت لها أول فرصة للتمحيص، أو كما يصفونها بالتمكين، إلا ونكصوا على أعقابهم خائبين.
سأتطرق هنا لتجربة واحدة؛ وسنضع اليوم الحزب الإسلامي العراقي أو ما يسمى بـ«إخوان العراق» وقادتهم تحت المجهر، لأن من وظيفة المجهر أن يساعد من في نظره قصور في الاطلاع على خبايا وصغار الأمور.
بعد تأسيس الحزب عام 1949 وبرئاسة الراحل أمجد الزهاوي، وكان المراقب العام له العالم الجليل الشيخ محمد محمود الصواف، رحمه الله، والذي سعى بتأسيس أول لبناته ورسم خطوطه العريضة حين التقى في مصر الراحل حسن البنا وتأثر بنهجه.
كان الوضع السياسي العراقي مضطرباً جداً، فآل الحزب وقياداته في بادئ الأمر إلى الابتعاد عن السلطة والاكتفاء بالتنظير والتوجيه والدعوة في حلقات علنية وسرية، واستمر على ذلك المنوال بعد حظره من قبل حكومة عبدالكريم قاسم وانتقال مراقبه لخارج البلاد، وتولى الدكتور كمال القيسي ثم الشيخ عبدالكريم زيدان رحمهما الله مهام المراقب العام له.
وبعد سيطرة حزب البعث على مقاليد الأمور عام 1968 استمر الحزب الإسلامي في أخذ دور المهادن، وبعض الأحيان المداهن، لما تتمتع به السلطة من جبروت وقوة أسكتت كل المعارضين، بل اضطرتهم للتسلل خارج البلاد وإيجاد حواضن لهم، فكانت المحطة الأولى إيران وسوريا ثم الغرب، وهنا أستطيع أن أتفهم لجوء قادة الأحزاب الشيعية إلى إيران، لأن كلها ولدت من رحم إيران، الأم والمرضع لهم، لكن ما لا أستطع فهمه ولم تفسره قياداتهم؛ ما سر العلاقة بين قادة الإخوان وملالي طهران؟
عمل قادة الحزب يداً بيد مع حزب الدعوة والفصائل الشيعية والأحزاب الكردية والعلمانية أيام المعارضة وتحت إمرة أمريكا والغرب، وتحت يافطة تقديم العون للإطاحة بنظام صدام، وأوفت أمريكا معهم وسلمتهم البلد أنقاضاً، ثم أوكلت أمرهم جميعاً إلى إيران.
وأكاد أرى من المجهر الكثير من الدقائق والحركات غير المنضبطة تقفز من تحت عباءة الإخوان، وهي تشبه كثيراً، بل تتطابق، في زيها مع عباءة ملالي طهران.
فبعد دخول المحتل وتربعه على مقدرات البلاد عام 2003، تم رسم خارطة سياسية هزيلة، وأتى بقيادات ضعيفة، وأنيط الأمر لتنظيم حزب الدعوة ليكون واجهة وممثلاً للشيعة، فيما الحزب الإسلامي يكون واجهة وممثلاً للسنة، وأبقى على الحزبين الكرديين لتمثيل الأكراد واستبعد من المشهد كل الوطنيين والعلمانييــن والكفــاءات والمخلصين والعشائر.
بدأت معركة تصفية الخصوم، خاصة في الجانب السني، فقد تناسى الفرقاء الأكراد والشيعة كل خلافاتهم وانصاعوا للمرجعية الدينية في النجف والسياسية في قم، وعملوا كفريق واحد مما سهل على المحتل التعامل معهم بسلاسة.
أما الجانب السني، الإخوان، فكان همهم الوحيد نصيبهم من الكعكة، فحاول الحزب الإسلامي أن يستحوذ على القدر الأكبر منها ويبعد منافسيه، بل وصل الأمر إلى القطيعة والتشهير ثم الاقتتال.
وحتى يخرج الحزب من مأزقه ويتغلب على مناوئيه لجأ إلى المحتل وبصم على كل مخططاته وسياساته، ومنها تمرير الدستور والقبول بنتائج الانتخابات الصورية وتشكيل الحكومات المتعاقبة بتمثيل بسيط للسنة لا يتجاوز 15%، على أن تكون له حصة الأسد فيها، وأبعد مناوئيه من المشهد ثم الوقوف ضد المقاومة الشرعية الشريفة وناصبها العداء، واستمر هذا الحال إلى أن خرج المحتل من بأس المقاومة وبكل فصائلها.
ورغم كل تلك التنازلات إلا أنهم انكشفوا وتم لفظهم من الشارع السني، فعمدوا لتبديل ثوبهم وعناوينهم وتحالفاتهم دون جدوى، فسقطوا سقوطاً مدوياً في الانتخابات الأخيرة.
بعد خروج المحتل وتسليم مقاليد الأمور لإيران وميليشياتها وعملائها أصبح الحزب وقادته مكشوفي الغطاء، فالتقط تلك الإشارة المالكي، فرغم كل التعاون والتسهيلات التي قدمها الحزب وقادته، إلا أنهم في نظر المالكي لا يعدون أكثر من تنظيم سني مهلهل، ويجب رميه في سلة المهملات بعد أن أدى دوره، فباشر بتصفية قادته وملاحقة آخرين بدعاوى كيدية، خصوصاً بعد أن توافق مع العملية السياسية كتلاً وأفراداً من السنة أكثر طاعة وانصياعاً.
فاستشعر قادته حجم الخطر المحدق بهم؛ فلم يجدوا مناصاً إلا الارتماء في حضن الولي الفقيه والاحتماء بعباءته، فبدأت قياداته بتقديم فروض الطاعة له، وبدأت الزيارات المكوكية لطهران سراً وعلانية.
الشواهد على ذلك كثيرة ولا تخفى على أحد؛ وآخر تلك التنازلات من أجل السلطة ما صرح به نائب الأمين العام للحزب الدكتور سليم الجبوري عند حضوره الذكرى الرابعة والثلاثين لتأسيس منظمة بدر الإيرانية، وامتداحه لها ولقائدها العامري، ووصفه بالابن البار للعراق، رغم جرائمهم الفظيعة بحق العراق، وبالذات بحق أهله وعشيرته وناخبيه، وما اقترفوه من سفك لدماء الأبرياء وتصفية الكفاءات وتهجير مئات الألوف.
ولا ندري أكان تمثيله وظيفياً كرئيس لمجلس النواب لنلتمس له العذر أم حزبياً كنائب الأمين العام للحزب الإسلامي، وهذا مرهون بما سيبرره أمينه رغم سكوته لحد الساعة؟ أم كان حضوره شخصياً؛ وهذا أيضاً سبة بحقه؛ إذ كيف سمحت له مروءته ودينه وخلقه ومبادئ عشيرته أن يجلس ويمتدح قتلة شعبه وأهله؟
أقول بعد ذلك ناصحاً لتلك القيادات، وبعد أن انكشف المستور وقرئ المحظور، وبات اللعب على المكشوف وفوق القدور، ولكون المرشد العام للإخوان مقيد الحركة وحبيس الجدران؛ بأن خامنئي خير مرشد لكم بهذا التوقيت والزمان.. فيا معشر الإخوان شدوا الرحال إليه وبايعوه قبل فوات الأوان!