نحن لا نعي ما نحن عليه إلا متأخرين، وتصوراتنا التي لا تتعدى الحياة الأكثر من العادية والتي نعيشها تكذب علينا وتقول إننا نفهم أكثر من آبائنا الأميين، الذين لا يعرفون فك الخط، وأمهاتنا الأميات اللواتي يسخرن من الأوراق التي نحمل، لأن الحياة الحقيقية ليست في الأوراق، بقدر ما هي في ممارسة أبسط أسس الفطرة السليمة والعيش كما يعيش العصفور، ينهض في الفجر ليجمع قوت يومه له ولعياله.
وكم سخرنا من أفكار أمهاتنا اللواتي لا يعرفن ما نعرف، متناسين عشرات القصص التي حكينها لنا ونحن في الصيف ننام فوق السطح وننظر إلى النجوم، فاتحين مخيلتنا على فضاءات غير محدودة مفتوحة الأبواب على ما نريد ونحلم.
القليل منا يدرك الآن أن أمهاتنا أكثر فهماً ووعياً منا، فهن يتكلمن من القلب، فيما نحن نتكلم من العقل، متصورين أن عقولنا هي الأهم في الحياة، ومتناسين أن معنى الحياة كله في نبضة القلب.
قبل فترة، قد تكون أكثر من سنة، حينما كنت متابعاً يومياً في الفيسبوك، قرأت على صفحة الصحفية المعروفة الصديقة رندة فاروق «أم تخاطب ابنها وتوصـيه»، فأحببت أن نتشارك فيها لنعرف أي النساء هن أمهاتنا، تقول الأم..
ولدي العزيز.. في يوم من الأيام ستراني عجوزاً غير منطقية في تصرفاتي، عندها من فضلك أعطني بعض الوقت وبعض الصبر لتفهمني، وعندما ترتعش يدي فيسقط طعامي على صدري، وعندما لا أقوى على لبس ثيابي فتحلَّ بالصبر معي، وتذكر سنوات مرت وأنا أعلمك ما لا أستطيع فعله اليوم.
إن لم أعد أنيقة جميلة الرائحة فلا تلمني، واذكر في صغرك محاولاتي العديدة لأجعلك أنيقاً جميل الرائحة، لا تضحك مني إذا رأيت جهلي وعدم فهمي لأمور جيلكم هذا، ولكن.. كن أنت عيني وعقلي لألحق بما فاتني، أنا من أدبتك أنا من علمتك كيف تواجه الحياة فكيف تعلمني اليوم ما يجب وما لا يجب؟!
لا تمل من ضعف ذاكرتي وبطء كلماتي وتفكيري أثناء محادثتك، لأن سعادتي من المحادثة الآن هي فقط أن أكون معك!
عندما تخذلني قدماي في حملي إلى المكان الذي أريده فكن عطوفاً معي وتذكر أني قد أخذت بيدك كثيراً لكي تستطيع أن تمشي، فلا تستحيي أبداً أن تأخذ بيدي اليوم، فغداً ستبحث عمن يأخذ بيدك.
اعلم أني لست مقبلة على الحياة مثلك، ولكني ببساطة أنتظر الموت، فكن معي.. ولا تكن عليّ!
عندما تتذكر شيئاً من أخطائي فاعلم أني لم أكن أريد دوماً سوى مصلحتك، وأن أفضل ما تفعله معي الآن أن تغفر زلاتي.. وتستر عوراتي.. غفر الله لك وسترك مازالت ضحكاتك وابتسامتك تفرحني كما كنت صغيراً فلا تحرمني صحبتك!
كنت معك حين ولدت فكن معي حين أموت!
الأمهات في الواقع لا يطلبن شيئاً من الأولاد والبنات، لا يطلبن أن يرددن المعروف وما فعلنه لأجلهم ولأجلهن، ويكذب الواحد منا، لو قال إنه سيرد شيئاً من المعروف إلى أمه، فما قدمته الأم لا يمكن لنا، مهما فعلنا، أن نفي الأم حقها.
إذاً لا تحتاج الأم إلا أن نكون معها في كل الحالات، سواء في حالات غضبها، أو في حالات ابتسامتها.
كن مع أمك.. ولا تكن عليها.