إن التطور الطبيعي الذي مرت به المجتمعات الحديثة عبر سلسلة من التغيرات في شتى مناحي الحياة قد نتج عنها ظهور مجتمعات مستقرة، من جميع النواحي المكونة للحياة اليومية، منها على وجه الخصوص الجوانب الأمنية والاقتصادية والسياسية. فعلى سبيل المثال، كانت الثورة الصناعية التي بدأت في بريطانيا، في نهاية القرن الثامن عشر، أول المحفزات لتحول المجتمعات نحو المدنية المعاصرة بمفهومها الحديث. ومع هذه الثورة التي أنتجت المحركات البخارية والآلات، بدأت المنافسات الأولية بين الإنسان والآلة في معترك الحياة اليومية. وتبدلت معها أحوال الدول وتغيرت المجتمعات، وظهرت المفاهيم الحديثة للأعمال والمصانع. ومعها أيضاً خرجت مفاهيم جديدة لم تكن معروفة قبلها، مثل البطالة وأسلحة الدمار الشامل، وغيرهما من المفاهيم والأدوات التي غيرت العالم حتى وصل إلى ما هو عليه الآن.
وبسبب عدم نضج المجتمعات الغربية في ذلك الوقت، فقد كانت الثورة الصناعية السبب الأساسي لنشوب الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، التي أزهقت معها أرواح الملايين من الأبرياء حول العالم. ولولا نضج تلك المجتمعات الذي قادها لتحكيم المنطق، لكانت الحرب العالمية الثالثة هي البديل الأرجح للحرب الباردة، التي استمرت زهاء نصف قرن بين قطبي العالم آنذاك، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
وهذا التطور الطبيعي الذي مرت به المجتمعات الغربية ساهم بشكل كبير في تجاوزها إرهاصات الثورة المعرفية، التي بدأت في التسعينات من القرن الماضي، بل إنها استطاعت تطويع نتاج هذه الثورة المتقدمة، بما يخدم مصالحها، ويعزز من مشاريع التنمية لديها، وتطوير مجتمعاتها على الوجه الذي نراه في وقتنا الحاضر.
الثورة الرقمية في المجتمعات التقليدية
إن حالة «عدم الاستقرار» (Instability) التي تعيشها معظم المجتمعات النامية، بأنظمتها التقليدية، هي في حقيقة الأمر -يمكن اعتبارها- حالة طبيعية للتحول (Transition) بين منظومتين، إذا ما قورنت بحالة المجتمعات الغربية قبيل الحرب العالمية الأولى وحتى نهاية الحرب الباردة، مع بعض الاختلافات الزمانية التي تؤثر في تفاصيل هذا التحليل للحياة الاجتماعية. ولعل هذا التحليل يتناسق مع النظرية العظيمة التي وضعها عالم الاقتصاد الروسي نيكولاي كوندراتيف (Nikolai Kondratieff) في عام 1935، والذي استطاع من خلالها تمثيل التحول المجتمعي إلى سلسلة من الموجات المتغيرة تأتي كل موجة منها مع النظرية الأساسية للاقتصاد الرأسمالي، ويطلق عليها «موجات كوندراتيف». ولو قمنا بعملية محاكاة للحالة العامة بين المجتمعات؛ سنجد أنه من المرجح استمرار حالة «عدم الاستقرار» في المجتمعات التقليدية إلى حين وصولها إلى مستوى مناسب من النضج المعرفي الذي يتيح لمختلف مكونات المجتمع ومؤسساته امتصاص العناصر المكونة للثورة المعرفية.
وبمعنى آخر؛ فإن الثورة المعرفية قد أنتجت أدوات ووسائل، لا توجد لدى المجتمعات التقليدية -حتى الآن- المنظومة المناسبة لحيازتها والاستفادة منها، تماماً كما فعلت الثورة الصناعية في المجتمعات الغربية حينما أنتجت الآلات والأسلحة، التي تسببت في نشوب الحربين العالميتين. لذلك نرى الفوضى الإقليمية المنتشرة حولنا، مع عدم قدرة معظم الشعوب على فهمها أو الابتعاد عنها. ويجب التركيز على أن هذه الفوضى تقوم على الاختلال الفكري لدى شريحة عريضة من الأفراد والجماعات، التي تبنت الإرهاب وسيلة للسيطرة والاستحواذ. وهذا يتماهى مع الأدوات التي تفرزها الثورة المعرفية من وسائل فكرية حصرية، وصلت عند البعض في هيئة وسائل التواصل الاجتماعي، وعند البعض الآخر في صورة برمجيات رقمية لقرصنة المواقع والمنشآت الصناعية، وغيرها من الأدوات الرقمية المنتشرة حول العالم.
أما من الناحية الفكرية، فإن الاستسلام لمثل هذا الواقع سيكون بلاشك ضرباً من الجنون، وسيتسبب ذلك في القضاء على بعض الدول، أو طمس هوية المجتمعات، أو نشوب حروب جديدة غير تقليدية، وهو الأمر المشاهد اليوم في الوضع الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط.
المنظومات الذكية
لعل ما يحسب لمجتمعاتنا اليوم هو وجود قاعدة عريضة من المكونات المعرفية التي تستطيع الاعتماد عليها؛ للوصول إلى حالة الاستقرار المجتمعي الذي يلي الفترة اللازمة لانتهاء التغيير المصاحب للثورات العلمية والمعرفية. وهذه المكونات نجدها في بعض من مؤسسات الدول وقطاعاتها الخاصة، التي استطاعت امتصاص آثار الثورة المعرفية بسرعة أكبر بكثير من المؤسسات الأخرى. وهذا ما يمكن الرجوع إليه من خلال مفهوم الحلول المختصرة. ولكن بسبب القدرة العالية للأدوات والوسائل الرقمية التي أنتجتها الثورة المعرفية، فإن بناء المجتمعات التقليدية لا يمكن أن يتأخر، أو أن يسير بوتيرته الطبيعية البطيئة. من هنا فإن الحل المختصر الأمثل أمام المجتمعات التقليدية لتجاوز ما تفرزه الثورة المعرفية هو تبني الأنظمة الذكية التي تعتمد على آخر ما أفرزته الثورة المعرفية وما أنتجته من تقنيات رقمية. والأنظمة الذكية في نموذجها العام هي امتزاج متجانس بين العقل البشري والأدوات المطلوبة لتسيير الحياة اليومية.
ولعل المصطلح الذي جاء به العالم والمفكر الكبير جوزيف ناي الذي ابتكر أولاً مفهوم «القوة الناعمة» (Soft Power) ثم طوره ليتحول إلى «القوة الذكية» (Smart Power)، لهو خير دليل على القدرة الرهيبة التي تمتلكها المجتمعات المتقدمة؛ لتبني كل ما هو جديد لتحسين أدائها بما يخدم مصالحها ومشاريعها التنموية. وهذا ما يمكن مشاهدته في الاستخدام الأمثل للقوة الذكية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها من المنظمات العالمية في الأحداث التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، والعمليات الإرهابية التي تنفذها الجماعات المتطرفة والتي تجد لها من المسوغات ما يدعمها ضمنياً، دون الحاجة لأي دعم عسكري على أرض الواقع.
وما نحتاجه في مجتمعاتنا اليوم هو الإيمان بوجود الحل الأمثل داخل المجتمعات وليس خارجها. ورسوخ هذا الإيمان كفيل بخلق البنية الأساسية القوية اللازمة لتشكيل المنظومة الذكية المطلوبة لمواجهة المشاريع التي تهدف إلى تفتيت مجتمعاتنا وتحويلها إلى خارج التاريخ، بواسطة الفكر المتطرف والأيديولوجيات المساندة لها.

المدير التنفيذي لمركز «دراسات»