نحن رغم تظاهرنا الدائم بالمعرفة إلا أن هذه المعرفة تحمل من القصور الكثير، بحيث توصلنا في نهاية المطاف إلى أننا لا نعرف شيئاً عن أقرب المقربين لنا، لا نعرف شيئاً عن زوجاتنا وأطفالنا وأهلنا وجيراننا، ويكاد هذا الجهل يعمينا عن مشاهدة الحقائق الحياتية واليومية والاجتماعية، حتى عند الكثير منا، ممن عرف شيئاً عن الذكاء الاجتماعي، وهو مقدرة الإنسان على إدارة علاقاته مع الآخرين وتطويعها لصالحه وصالحهم، ولا تتأتى هذه القدرة إلا عن طريق التمكن من فهم الأشخاص بأجناسهم وتقدير مشاعرهم.
من هذا التعريف المقتضب، نجد أن من أفضل الطرق التي تؤدي إلى الوصول إلى كسب أكبر عدد من الناس هو بتمثل ما ينتابهم من مشاعر وتقدير ما يدور في رأسهم من أفكار، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف المحيطة التي منحتهم هذه الشخصيات.
لا يمكن بأي حال من الأحوال وصف الذكاء الاجتماعي بأنه العملية البسيطة المكتسبة، بل على العكس تماماً فإنها عملية مرهقة متعبة تحتاج لضبط النفس والهدوء والمجاملة والمحادثات التي قد تكون مطولة والثناء، ولكن القليل منا يستخدمه في حياته اليومية والاجتماعية.
قبل فترة قصيرة أرسل لي الصديق خالد الرويعي على قروب مكتبة نون في الوتس أب قصة منقولة عن كاتبها عبدالله المغلوث، تقول القصة..
رأت المعلمة الأمريكية كايتي شوارتز في مدرسة بمدينة «دنفر» في ولاية «كلورادو» أن هناك فجوة كبيرة بينها وبين طلابها الصغار، والأخطر أن هذه الفجوة تزداد تدريجياً؛ ما جعلها تعمل على حل يقربها منهم. فأعدت مشروعاً صغيراً بعنوان: «أتمنى لو معلمتي عرفت». يرتكز هذا المشروع على تسليم طلابها ورقة معنونة بسؤال: «ماذا تريد أن أعرف عنك؟»، فصدمت المعلمة بالإجابات التي تلقتها.
أحد الأطفال يقول: «أتمنى لو معلمتي عرفت أنني لا أملك أصدقاء ألعب معهم»، وآخر يقول: «أتمنى لو معلمتي عرفت كم أشتاق إلى أبي، أذهب إلى غرفته كل يوم ولا أجده ولن أجده، فقد رحل إلى المكسيك نهائياً، سأظل بلا أب». ثالثة كتبت: «أتمنى لو معلمتي عرفت أنني لا أملك أقلام رصاص في المنزل حتى أؤدي واجباتي الدراسية». وكتب رابع:» أتمنى لو معلمتي عرفت أن شقيقتي كفيفة وأقوم بمساعدتها طوال اليوم». أما إحدى الطالبات فقد ردت على سؤال المعلمة قائلة: «أتمنى لو معلمتي عرفت أن أمي وأبي يتشاجران طوال اليوم، أكره العودة إلى المنزل وأكره الذهاب إلى المدرسة أيضاً لأني سأحاسب على دروس لم أذاكرها وواجبات لم أقم بها».
كانت إجابات الطلاب العفوية والصادقة مفتاحاً للمعلمة لتكتشف جوانب خفية ومخبأة في حياة تلاميذها، ساعدتها على مساعدتهم وعودتهم تدريجياً إلى فصولهم. شرعت في حل كل مشكلة على حدة، زارت منازل طلابها وبدأت في معالجة ما يمكن معالجته، والأهم من ذلك كله أنها بدأت تفهم عقلية وخلفية طلابها جيداً، وفي ضوء ذلك قامت بمعاملتهم وتوزيع واجباتهم بناء على ظروفهم وتحدياتهم بشكل يجعل المدرسة عاملاً مسانداً لا عبئاً عليهم.
مشروع المعلمة «كايتي» انتقل إلى كثير من المدارس وتم تطبيقه بشكل ممنهج ومؤسس انعكس على أداء الطلاب والمدارس معاً، بل امتد إلى المجتمعات المحيطة؛ لأن كل هؤلاء الطلاب جزء من مجتمعهم الأكبر.
ليست مدارسنا فحسب التي تحتاج إلى تبني هذه الفكرة الجميلة التي تردم الهوة بيننا وبين الآخرين، بل كل مجتمعاتنا.
يتساءل عبدالله المغلوث في نهاية القصة؛ هل سبق أن سألنا أحبتنا هذا السؤال: ماذا تريدني أن أعرف عنك؟ نعتقد أحياناً أننا قريبون جداً منهم.. لكننا في الحقيقية بعيدون جداً عنهم. أكثر مما نتصور.
وأضيف شخصياً إلى كلام الأخ عبدالله المغلوث؛ إننا بالفعل نحتاج إلى جميع أنماط الذكاءات الموجودة عند الإنسان للتعرف على الحاجات التي ينتظرها البعض منا ليقوم بالوقوف والتحرك من وصولهم إلى مناطق النجاح والسعادة والتألق، وهذا لا يمكن أن يكون إلا عبر بوابة المحبة، فهي وحدها تدخلنا إلى ما نرغب ونحلم.