خلق الإنسان وأعطيت له وهو في جغرافية الحياة الكثير من الإشارات الإلهية التي تدله على الطريق، لكن أغلب الناس لا يعرفون قراءة هذه الإشارات السماوية، ولا يعرفون إشارات الطبيعة ولا يعرفون إشارات الجسد، لذلك ما أن يخرجوا من حفرة إلا وقعوا في غيرها، وما أن يتخلصوا من همّ إلا أتاهم همّ أكبر من الأول، فالإشارات الإلهية أحياناً لا تكون مباشرة، إنما تأتي على هيئة حلم، إذا لم يستطع الحالم أن يفسره فهناك من يستطيع ذلك، وأحد الأحلام التي استوقفتني هو حلم توبة مالك بن دينار.
جاء في تفسير روح البيان؛ سُئل مالك بن دينار عن سبب توبته وتوجهه إلى الله، فقال: كنت في مستهل عمري جندياً سكيراً، فاشتريت جاريةً وتعلقت بها كثيراً، ومنّ الله عليّ منها بطفلة فأحببتها حباً كبيراً، وكان حبها يزداد في قلبي يوماً بعد يوم، وكانت هي كذلك شديدة التعلق والأنس بي.
وكنت كلما تناولت كأس الخمرة لأشربها كانت تأخذه مني وتريقه على ثيابي، وعندما بلغت الثانية من عمرها ماتت، فتأثرت لموتها كثيراً، ولم يعد يقر لي قرار، وفي إحدى ليالي جمعة شوال شربت الخمر ولم أصل العشاء ونمت، فرأيت في النوم كأن أهل المقابر خرجوا جميعاً وهم في المحشر وأنا معهم، فسمعت من خلفي صوتاً، فنظرت، وإذ بأفعى سوداء ضخمة، لا يتصور أكبر منها، وهي فاغرة فاها مسرعة نحوي.
وبرعب ودهشة شديدين فررت من أمامها، فأخذت تطاردني، فالتقيت في الطريق أثناء فراري برجل عجوز حسن الوجه والرائحة، فسلمت عليه فرد السلام.
قلت له: أغثني واحمني.
قال: أنا في مقابل هذه الأفعى عاجز، ولكن اذهب بسرعة، لعل الله يهيئ لك وسائل نجاتك.
فمضيت هارباً مسرعاً، حتى وصلت إلى منزل من منازل القيامة، فرأيت هناك طبقات جهنم وأهلها، وكدت لشدة خوفي من الأفعى أن أرمي بنفسي في جهنم، فإذا بصوت يقول: ارجع لست من أهل هذا المكان.
فاطمأن قلبي ورجعت، وإذا بالأفعى تطاردني ثانية، فهربت منها حتى وصلت إلى ذلك العجوز، فقلت له: أيها العجوز احمني وأغثني.
فبكى العجوز وقال: أنا عاجز، ولكن اذهب نحو هذا الجبل الذي فيه أمانات المسلمين، فإذا كانت لك أمانة فستساعدك.
فنظرت إلى الجبل فرأيت فيه غرفاً أرخيت عليها ستائر، وأبواب تلك الغرف من الذهب الأحمر المرصع بالياقوت والدر، فتوجهت تجاه الجبل والأفعى تطاردني، وعندما اقتربت صاح ملك: ارفعوا الستائر وافتحوا الأبواب وأخرجوا الأمانات، لعل لهذا المسكين أمانة بينكم فتحميه. وإذا بأطفال وجوههم كالأقمار الساطعة وقد خرجوا فوجاً فوجاً.
وفجأة رأيت ابنتي التي ماتت بينهم، وبمجرد أن رأتني بكت وقالت: هذا -والله- والدي، ثم وضعت يدها اليسرى في يدي اليمنى، وأشارت بيدها اليمنى إلى الأفعى فرجعت.
ثم جلست ابنتي في حضني، ووضعت يمناها على لحيتي وقرأت عليّ شيئاً من القرآن، فبكيت وقلت: ابنتي، أنت تقرئين القرآن؟!
قالت: يا أبت، إن بالقرآن أفضل من معرفتكم به.
قلت: أخبريني ما هذه الأفعى؟
قالت: هي عملك السيء الذي قويته وكاد أن يلقيك في جهنم.
بعيونك لا تستطيع فهم هذه الإشارات، إنما بقلبك المفتوح على المحبة الكونية، انطلاقاً من محبة ذاتك التي هي المعادل لما كل ما في الكون من نعم.
اسمع نبضة قلبك، تأملها، تحدث معها، دعها تقدك إلى مدن الخير والسلام والرضا. وحدها النبضة، بالأحرى الفراغ الساكن بين النبضة والأخرى، هناك ترى ما لا يرى. وتعرف ما لا تعرف. كن هناك. دائماً كن هناك.