أي شخص يملك ذرة من الوعي يعرف جيداً أن الإنسان تكفيه أية وجبة ليشبع، وأكثرنا يأكل أكثر مما يحتاج جسده، لذلك يصاب بالتخمة، والتخمة تؤدي إلى الأمراض، وزيادة كمية الكولسترول في الدم وإضعاف الكبد من القيام بدوره في إنتاج الأنسولين، وإتعاب الكلى من إفراز الفائض منها، حتى تتحول إلى حصى، وغير ذلك من الأمراض التي لا تعد ولا تحصى.
ولكن أكثرنا، بسبب العمى الداخلي، يعمل على أخذ أكثر مما يحتاج، من حب المال إلى حب المركز، إلى حب الشهرة، إلى عشق البروز الإعلامي، وكل ذلك يساهم في تحويل النعمة إلى نقمة، والمنحة الربانية إلى محنة عضوية أو نفسية أو اجتماعية أو روحية، وهذا هو الموضوع الذي أود أن أتحدث عنه اليوم في عمودي القصير متذكراً إحدى القصص التي تحاول أن تعلمنا أن الإفراط في حب الدنيا يعمل على تحويل النعمة إلى نقمة كما قلت سابقاً.
تقول القصة المتخيلة التي أرسلتها ابنة أختي، أم خليفة...
سقطت قطرة عسل على ا?رض، فجاءت نملة صغيرة فتذوقت العسل ثم حاولت الذهاب، لكن مذاق العسل راق لها، فعادت وأخذت رشفة أخرى ثم أرادت الذهاب لكنها شعرت بأنها لم تكتف بما ارتشفته من العسل على حافة القطرة، وقررت أن تدخل في قطرة العسل لتستمتع به أكثر وأكثر.
دخلت النملة في العسل وأخذت تستمتع به، لكنها لم تستطع الخروج منه، لقد كبلت قوائمها والتصقت با?رض ولم تستطع الحركة، وظلت على هذه الحال إلى أن ماتت..
وتنهي القصة بالعبرة التي يحتاجها كل إنسان في العالم، حيث يقول أحد الحكماء «ما الدنيا إ? قطرة عسل كبيرة، فمن اكتفى بارتشاف القليل من عسلها نجا، ومن غرق في بحر عسلها هلك!».
ليس في ما أقول دعوة للابتعاد عن ملذات الحياة والتمتع بما أنعم الله علينا ورزقنا به؛ إنما هو تذكير أن الانغماس التام في هذه الملذات الحسية والمادية إلى درجة الموت، هو ما يجعلنا نعيش مثل الحيوانات، لا هم لنا إلا الغريزة، والاهتمام بالغريزة لا يعني أن تكون هي الجانب الأهم في حياتنا الدنيوية، إنما هناك أيضاً ضرورة الاهتمام بالجوانب الروحية، والتي هي صمام الأمان لحياة الإنسان المحددة على هذه الأرض، فترة قصيرة، لو حسبناها لكانت أقصر مما يتصور البعض منا.
قد تكون أحد عشاق المال، وهذا من حقك، ولكن هذا المال جاء إليك لا من أجل أن يستعبدك، إنما لمساعدتك وبالتالي مساعدة الآخرين المحتاجين إليك وهم يمرون بأزمات.
فأنت في الواقع لست سوى قناة اختارها الله لإيصال الخير إلى غيرك، وحينما يصل بك الله إلى السلطة والجاه والمنصب، لا يعني أن تبدأ بالوقوف ضد غيرك ومحاولة تهميش أصحابك وإبعادهم بل التآمر عليهم، كما نراه يحدث يومياً ممن كانوا يعيشون المرارة والتهميش والاضطهاد من آخرين، ولكنهم حينما وصلوا تناسوا كل ذلك وبدؤوا يمارسون كل الأمور التي كانوا يرفضون ممارستها من غيرهم.
أنا لا أكتب عن أشخاص بقدر ما أكتب عن حالات تحدث في كل العالم، ولهذا أرى ضرورة الانتباه إلى ما نقوم به من حب دنيوي، وقتي، زائل، ينتهي في أول هزة تهز حياتنا.
خذ ما يكفيك من متاع الدنيا؛ لكن لا تأكل أكثر من حاجتك، لا تقف ضد غيرك في الدين أو المذهب أو الأيديولوجيا أو المشاعر الإنسانية، لا تنغمس أكثر مما يجب في وهم خلودك عن طريق قوتك المالية أو منصبك.. فكل شيء زائل ولا يبقى غير العمل الصالح.