لأول مرة؛ أسفرت الانتخابات التركية عن فوز حزب الشعوب الديمقراطي بـ 80 مقعداً على قائمته المستقلة بعد أن نجح في اجتياز حاجز الـ 10%، وهي النسبة المطلوبة لدخول البرلمان. وهذا الإنجاز الكبير للأقلية الكردية يمثل تغيراً على الساحة السياسية التركية، وهو ما يعيد للأكراد حقوقهم ويعطيهم استقلالية في موقفهم تجاه حل مشاكلهم ومشاكل أشقائهم في دول الجوار التركي؛ العراق وسوريا وإيران.
ما يهمنا ليس نتائج الانتخابات التركية على المستوى السياسي الداخلي، ولكن ما تحمله دلالات هذه الانتخابات على المستوى الإقليمي، وخاصة بالنسبة لأهم قضية تشغل العقل العربي على مدى ما يقرب من مائة عام ومنذ صدور وعد بلفور، وفي تقديري كمحلل برؤية استراتيجية ومشغول بالهموم العربية والدولية وبقضايا حقوق الإنسان ونضال الشعوب من أجل تقرير مصيرها.
إن هذه الانتخابات حملت عدة رسائل؛ الأولى ذات مضمون يرتبط بمبادئ العمل السياسي، وهو أنه لا يحل مشكلة أي شعب سوى الشعب نفسه، وإن الاعتماد على أية قوى خارجية هو وصفة غير سليمة وغير صادقة، وتجر على الشعوب الكثير من الكوارث والنكبات، ومن يقرأ تاريخ المنطقة العربية أو تاريخ العالم يجد مصداقاً لذلك، فمن الاستعمار العثماني باسم الإسلام إلى الاستعمار البريطاني والفرنسي باسم المدنية إلى الاستعمار الأمريكي باسم حقوق الإنسان، إلى الطموحات غير المشروعة لبعض دول الجوار العربي بمسميات متعددة.
الرسالة الثانية؛ إن منهج العنتريات والبلاغة الخطابية، خاصة في صك شعارات لا قيمة حقيقة لها في السياسة ما لم تقترن بعمل، وإن المنطقة العربية عاشت محلك سر في تحرير أراضيها بسبب تلك الشعارات الجوفاء والتبريرات اللاعقلانية، مثل مقولة إننا لا نفتح جبهة مع إسرائيل حتى يمكننا الوصول إلى توازن استراتيجي، وهكذا بقيت أراض عربية لدول الصمود محتلة، ولاتزال، في انتظار تحقيق التوازن الاستراتيجي المزعوم، وأنني أتمنى من الأخوة الفلسطينيين أن يتجنبوا هذه الشعارات.
أتذكر عندما كنت دبلوماسياً في سفارة مصر في الأردن في بداية حياتي دعيت لبيت أسرة فلسطينية، وقدمت لي ربة البيت أبناءها قائلة هذا ينتمي إلى البعث السوري والآخر للبعث العراقي وثالث لجبهة التحرير العربية والرابع لحركة القوميين العرب والخامس للحزب الشيوعي والسادس والسابع.. وهكذا. فقلت للسيدة «أعانك الله فلديك أمماً متحدة في بيتك»، وسألتها ماذا تفعلين، فقالت أتركهم يتناقشون فإذا اشتد الخلاف بينهم، وهذا طبيعي، أقوم بالصراخ فيهم فيصمتوا احتراماً ويتم فض الخلاف مؤقتاً، لكنه يظل يتجدد في مناسبات لاحقة.
والآن ومنذ فترة وأنا أفكر في تاريخ الحركة النضالية الفلسطينية، أقول إن الفلسطينيين جنوا على أنفسهم بهذه الانقسامات، وإن الدول أو النظم العربية جنت عليهم باستغلالهم لأيديولوجياتها المتعددة، ومن هنا فإنني أقول إن أول وأخطر ما يواجه نضال شعب من الشعوب هو الاعتماد على الخارج، حتى وإن كان هذه الخارج يكن أو يظهر مودة. أما الخطر الثاني فهو الانقسام بين أنصار القضية مهما كانت عادلة، فهذا وصفة لتدميرها. ولقد انتصرت ثورة الجزائر عندما كانت متوحدة بقيادة جبهة التحرير الجزائرية ومساندة دولة ليس لها مصلحة ذاتية وإنما إيماناً بالنضال العربي، وهي مصر عبد الناصر.
الرسالة الثالثة؛ هي أن يكف السياسيون عن المتاجرة بدماء الشهداء من الشعب البسيط في أية دولة، وخاصة الشعب الفلسطيني المهضومة حقوقه عبر السنين.
الرسالة الرابعة للانتخابات التركية؛ هو أن السياسة فن الممكن، وإن الأكراد ظلوا يدخلون البرلمان عبر الأحزاب الأخرى، ثم قرروا الدخول عبر القائمة المستقلة بهم ومن يؤيدهم من الأقليات الأخرى في حزب الشعوب الديموقراطي، ورغم أن القانون التركي به شرط معجز للقوى السياسية، وهو اشتراط حصول الحزب على 10% من المصوتين على المستوى الوطني بأسره، وهي نسبة لا نجد لها نظيراً في أية دولة ديموقراطية، ولم تكن بهذه التعجيز في الماضي، ولا في أية دولة فعادة تضع الدول نسبة معقولة ما بين 2 إلى 5% لضمان جدية الأحزاب ولتفادي عملية التشرذم السياسي وتحول العملية السياسية إلى لعبة شخصية ومهاترات، كما هو حادث الآن في مصر، حيث بها أحزاب كرتونية بلغت نحو 90 حزباً لا يعرف الشعب منها سوى أمرين؛ بعض أسماء رؤساء بعض الأحزاب أو قلة منهم وبعض الصحف التي أقرب لصحف المهاترات والإشاعات منها للصحف الرزينة المتعقلة.
الرسالة الخامسة؛ ترتبط بالمنهج الواقعي للعمل السياسي وهو الذي يحقق المعجزات والإنجازات، أما المنهج العشوائي الثوري الانقلابي الحارق للمراحل، كما أسماه الفكر الماركسي، وكما سعي إليه تروتسكي، ورفضه لينين الواقعي، لأن هذا لن يجر سوى التراجع المستمر، أو الكوارث، خذ على سبيل المثال ما قام به غاندي ونهرو في قبولهم الحكم الذاتي تحت الاحتلال البريطاني وأدى ذلك لانتشار فكرهم سياستهم وتحرير بلادهم، بينما النضال بالتطرف والشعارات جلب النكبات على قضية فلسطين وأدى ذلك لمزيد من التراجع، أتصور لو اتحد الفلسطينيون من مرحلة ما قبل عام 1948 وهم يبلغون حوالي 20 إلى 25% من سكان إسرائيل الآن ولديهم المواطنة، ولو اتحدوا في قائمة واحدة كما اتحد الأكراد في تركيا فكان يمكنهم أن يغيروا خريطة العمل السياسي الإسرائيلي، ويكونوا ورقة صلبة ضد التطرف الإسرائيلي المتصاعد ويحمون حقوقهم، وفي كافة الأحوال سيتقدمون خطوة أو ربما خطوات للأمام. وأنا أعرف أنهم اتحدوا في قائمة موحدة في الانتخابات الأخيرة، لكن كان هناك الكثيرون الذين دعوا لمقاطعة الانتخابات، وعادة يقال إن الصامت والمقاطع لا يعتد به في العمل السياسي، وهو أسلوب الضعفاء غير الراشدين.
الرسالة السادسة؛ إن النضال الوطني من أجل الحقوق لا يكون عبر الميكروفونات أو الجلوس في الفنادق الفخمة في الدول الأجنبية وترك أوطانهم وشعوبهم تعاني أشد المعاناة، وهذه هي آفة الثوريين العرب، خاصة بعض الفلسطينيين في هذا العصر، وكذلك ثوري مصر ما بعد ثورة 25 يناير، حيث وجدوا الحاضنات في الخارج يغدقون عليهم من الأموال ويزودونهم بالأبواق الدعائية والفضائيات، ومن ثم أصبح النضال المفضل لديهم في تلك الأماكن المريحة، أو ما يمكن أن نسميه بالنضال الناعم وليس نضال المعاناة.
إن الرسالة الصريحة والواضحة التي تبعث بها الانتخابات التركية؛ إن الشعوب الحية والواعية لا تقبل الظلم مهما كانت التسمية المغلفة له، وإن على الشعب الفلسطيني ألا ينخدع بالشعارات الجوفاء والمزايدات، وعليه أن ينخرط في العمل السياسي وعلى قادته البقاء في أوطانهم تحت الاحتلال أو في سجونه، فهذا أكثر شرفاً لهم من البقاء في بلاد الشتات يسبحون بحمدهم ويشكرونهم لإقامتهم في الفنادق الفخمة، وإن منطق الخداع لا يدوم وإن المرء ليكذب فيصدقه الناس وهو يعرف أنه يكذب، ثم يكذب فيصدقه بعض الناس وينخدعون بما يقول أو يرفع من شعارات وأخيراً يكذب فيكذبه الناس ويصدق نفسه، والانتخابات الحرة خير دليل على ذلك.