بعض الأحيان وأنت تغوص في مشاويرك اليومية وتحاول أن تنجز ما تستطيع إنجازه من مهام وأعمال حتى لا تتراكم عليك، ويصبح من العسير أن «تخلصها» في وقتها، مما يساهم في تعطيل مشاريعك أو مهامك الأخرى التي تطل برأسها هنا وهناك.
أقول وأنت في هذه الزحمة اليومية، لا تدري من أين «نطت» في رأسك إحدى القضايا الهاجعة هناك منذ أكثر من نصف قرن، لهذا تفاجأت حين تذكرت فيلم «طريد الفردوس»، هذا الفيلم الذي توقفت عنده في يوم من أيام صباي وبداية مراهقتي، وتساءلت عن المعنى الذي يحاول أن يطرحه الحكيم، وبالتالي المخرج الذي أراد أن يطرح علينا هذه الرؤية الفلسفية الصعبة.
و«طريد الفردوس»، كما هو معروف لمن يتابع الأفلام، فيلم مصري تم إنتاجه عام 1965، من إخراج فطين عبدالوهاب، وتمثيل فريد شوقي وسميرة أحمد ونجوى فؤاد.
تقول قصة الفيلم؛ يموت الدرويش «عليش» وينقل في موكب مهيب إلى المقبرة، وهناك يتم صعوده إلى السماء من أجل محاسبته، لكن هناك يكتشف أن مجموع حسناته يساوي مجموع سيئاته، وأنه ليس من أهل الجنة ولا من أهل النار، وبالتالي يصدر قرار بإعادته إلى الدنيا لبضعة أيام من أجل اختباره مرة أخرى، يعود إلى الحياة ويخرج من المقبرة ويكتشف أنه من الصعب أن يعود إلى شخصيته القديمة كـ«عليش»، فينتحل اسم إبراهيم وينضم إلى إحدى العصابات ويتعرف على فتاة نقية يحاول مساعدتها، ثم يختلف مع أفراد العصابة، فيقوم بمطاردتهم وكشفهم إلى رجال الشرطة، يشتد الصراع ويقع في حب الفتاة، وأثناء مشاجرة مع أفراد العصابة وقبل أن تأتي الشرطة يموت إبراهيم من جديد.
فيلم «طريد الفردوس» وهو عن قصة فلسفية شديدة الروعة، كان الشيخ «عليش» رجل بركة.. عاش حياته ومات دون أن يرتكب خطيئة واحدة أو إثماً يحاسب عليه، عاش طيلة عمره في كهفه منعزلاً عن العالم يصلي ويصوم ويسبح ربه والناس تتبارك به إلى أن جاء أجله ومات، حزن عليه الناس كثيراً، وأصبح المكان الذي كان يتعبد فيه مقاماً يزوره محبوه من حين إلى حين.
يقول الكاتب أحمد عفيفي: «إنه راجل زى الفل.. وهو يعرف ذلك عن نفسه تماماً، وعندما صعدت روحه إلى السماء، ذهب بثقة غير مسبوقة إلى الجنة وهو يدرك أنه داخلها.. فإن لم يدخل الشيخ عليش الجنة.. من إذن يكون.. لكن المفاجأة التي أذهلت الشيخ عليش أن اسمه غير مدرج بين من سيدخلون الجنة.. واحتار الرجل.. هنا فقط .. «إما الجنة وإما النار.. واسمي ليس في كشوفات الجنة.. فهل يعقل أن أجده ضمن من سيدخلون النار..».
وكانت المفاجأة الثانية حين ذهب إلى النار مرتعشاً متوجساً خيفة.. إنه لم يجد اسمه أيضاً هناك.. فوقف غير مصدق ومحتاراً في أمره ويقول: «لا الجنة قابلاني ولا النار عايزاني.. أعمل إيه دلوقتي.. أبات في الشارع؟!».
وهو في هذا الحالة من الذهول سمع الصوت القادم من مكان غير محدد وهو يقول له: «وهذه هي مشكلتك.. لم تعش حياتك بشكل طبيعي.. لم تختلط بالناس.. لم تر الفساد ومنعته.. وربما لو رأيته لانزلقت قدماك.. لم تحتك بأحد.. قابع في كهفك وعالمك الضيق المحدود.. فكيف تطمع في جنة الرحمن دون أن تنجح في الاختبار؟».
ثم قال له: «انزل مرة أخرى إلى الدنيا واخرج من عالمك الضيق وعاشر الناس، وتعامل معهم وسوف ترى العجب، وهذا هو الاختبار الحقيقي.. فإذا جاء أجلك بعد هذه الرحلة، فثق أنك لن تقف هذا الموقف مرة أخرى.. لا جنة.. ولا نار».
المعنى الذي نصل إليه في حكمة الحكيم، أن الله أعطاك نعمة الاختيار، والطريق للجنة أو النار، لذلك عليك أن تقوم باختيار الطريق الذي عليك السير فيه من أجل الوصول إلى ما تريد تحقيقه في مرحلة دنياك.