تاريخياً؛ يعد الفقيه الشيعي محمد بن مكي العاملي (ولد في قرية جزين جنوب لبنان عام 729هـ وأعدم في دمشق سنة 786هـ وسمي عند الشيعة بالشهيد الأول) أول من طرح موضوع ولاية الفقيه، وعين نفسه نائباً للإمام المهدي والمهيأ لظهوره، وكان أول من استخدم مصطلح «الفقيه الجامع للشرائط» في الفقه الشيعي، وأول من أفتى بضرورة إعطاء الخمس للفقيه الجامع للشرائط، وأول من قال بعدم جواز إقامة صلاة الجمعة في ظل غيبة الإمام المهدي وأن الصلاة لا تصح إلا بوجوده.
غير أنه لم يناقش موضوع ولاية الفقيه بشكل مستقل وتفصيلي في أي من كتبه، لكنه تطرق لها بشكل عابر في كتابه «اللمعة الدمشقية» سنة 782هـ، الذي هو من كتب الفقه الأساسية التي تدرس في الحوزة الدينية الشيعية، وذكرها أيضا في مقدمة كتابه «ذكرى الشيعة»سنة 784هـ.
لقد عمل محمد بن مكي بعد عودته الى قريته جزين سنة 760هـ، التي كان غادرها إلى العراق بهدف طلب المزيد من العلم، على بث دعوته وعين له وكلاء في المدن والبلدات اللبنانية لنشر عقائده وأفكاره، وصار له أتباع ومريدون، ولكن سرعان ما أخذ بتغيير هدفه وتحولت حركته الفقهية إلى عصابة مسلحة تسعى في الوصول إلى السلطة، ولهذا بدأ بعض أنصاره البارزين بالابتعاد عنه متهمينه بالغلو والانحراف في الفكر والعقيدة، مما دفعه إلى الإفتاء بقتل بعضهم. وأبرز من قتل من أصحابه المنشقين بحكم هذه الفتاوى شخص يدعى محمد اليالوشي، الأمر الذي دفع أنصار اليالوشي وعلى رأسهم تقي الدين الخيامي للتعاون فيما بعد مع سلطة المماليك في دمشق لإلقاء القبض على بن مكي، وبعد القبض عليه قامت سلطة المماليك بجمع تواقيع سبعين من أعوانه ووكلائه إضافة جمع تواقيع المئات من علماء وشيوخ الإسلام ممن حكموا بارتداد بن مكي وجرت محاكمته بتهمة الارتداد وإثارة الفتن.
وبما أن العادة المتبعة، حسب المذهب الشافعي آنذاك، كانت تقضي بترك المرتد أو الزنديق عاماً واحداً في السجن قبل إعدامه على أمل أن يتوب ويرجع عن ذنبه، فقد طبق هذا الأمر على ابن مكي، وقد أفتى أحد قضاة دمشق ويدعى برهان الدين الشافعي باستتابته، لكن قاضي القضاة رفض هذه الفتوى وأمر بإعدام محمد بن مكي، وعليه فقد جرى في اليوم التاسع من جمادى الأول لسنة 786هـ ضرب عنق أول رجل دين شيعي قال بولاية الفقيه ونصب نفسه نائباً للإمام الغائب.
يتبين من مراجعة المصادر التاريخية التي تناولت هذا الموضوع، وأغلبها مصادر شيعية ومن أبرزها كتاب «هجرة علماء الشيعة من جبل عامل إلى إيران في العصر الصفوي» لمؤلفه مهدي فرهاني منفرد، أن محمد بن مكي لم يكن مجرد رجل دينٍ شيعي يطرح مسألة فقهية معينة شأنه شأن أي فقيه آخر، بل إن الرجل كان يحمل مشروعاً سياسياً ذا بُعد عقائدي يهدف من ورائه الوصول إلى السلطة عن طريق إثارة العصيان والثورة المسلحة، ومن هنا يتبين سبب عدم تبني أيٍ من المرجعيات الشيعية التقليدية لنظرية ابن مكي طوال العقود التي أعقبت مقتله، وذلك لقناعة هذه المرجعيات بأنها نظرية مناقضة لأصول العقيدة إضافة إلى استحالة تحقيقها.
لقد ربط الخميني مشروع تصدير الثورة بموضوع ولاية الفقيه المطلقة، وعمل النظام الإيراني على تأسيس تنظيمات وأحزاب عديدة في البلدان والدول العربية والإسلامية على قاعدة الإيمان بولاية الفقيه المطلقة، وقد اعترف أمين عام حزب الله في لبنان السيد حسن نصر الله أثناء أحداث بيروت الدامية في مايو / أيار 2008م بذلك صراحة حين قال: «يتصورون أنهم يهينوننا عندما يقولون حزب ولاية الفقيه، أفتخر أن أكون فرداً في حزب ولاية الفقيه». وهذا يؤكد مرة أخرى أن ولاية الفقيه ليست مسألة فقهية دينية، إنما هي حزب سياسي يبيح لنفسه استخدام كافة السبل والوسائل لتحقيق غايته.
من هنا يمكن فهم سبب حماسة حسن نصرالله ورجال الدين اللبنانيين الشيعة لنظرية ولاية الفقيه وتبعيتهم الكبيرة لإيران ونظامها الثيوقراطي، فبعد الجدل الذي أعقب مرض المرشد الأعلى لإيران، علي خامنئي، حول من يخلفه في هذا المنصب، طرحت أسماء عدة لخلافته، من بينها اسم شقيقه آية الله محمد خامنئي، واسم رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام هاشمي رفسنجاني، بالإضافة إلى أسماء كل من رئيس السلطة القضائية الأسبق محمود هاشمي شاهرودي، وأمين عام حزب الله اللبناني حسن نصرالله. وحسب مصدر في مجلس خبراء القيادة؛ فإن هناك اتجاهاً داخل الدوائر المغلقة يميل إلى اختيار حسن نصرالله كأفضل المرشحين لخلافة خامنئي، ويعزو ذلك إلى عدة أسباب منها..
أولاً: أن الشخصيات الإيرانية المقترحة لشغل منصب ولاية الفقيه حولها خلاف بين الفرقاء، ولا يوجد بينها إجماع لحد الآن على شخصية معينة.
ثانياً: أن إيران بحاجة للإبقاء على قوة نفوذها في الطائفة الشيعية وتمددها في العالمين العربي والإسلامي.
ثالثاً: أن إيران بحاجة إلى نقلة نوعية في جمهوريتها الثالثة، ولهذا لابد أن تكون هذه النقلة في رأس الهرم.
من هنا فإن اختيار حسن نصرالله يكون الخيار الأفضل لشغل هذا المنصب للأسباب التالية
أولاً: قطع الطريق على الجناح البراجماتي والإصلاحي الذي يتزعمه هاشمي رفسنجاني، والذي دعا مؤخراً إلى تغيير منصب ولاية الفقيه إلى مجلس شورى الفقهاء.
ثانياً: الدفع بإيران إلى الأمام باعتبارها دولة لجميع الشيعة وليس جمهورية للإيرانيين فقط.
ثالثاً: حسن نصرالله ينحدر من ذات المنطقة والمدرسة (جبل عامل) التي ابتكرت نظرية ولاية الفقيه.
رابعاً: حسن نصرالله مقيد ضمن قوائم قيادات الحرس الثوري الذي يهيمن على مقاليد الأمور في إيران، ويدير مشروع تصدير الثورة، وهو قد أثبت ولاءه لإيران، حيث كان من أوائل الشيعة اللبنانين الذين التحقوا بالثورة الإيرانية وزعيمها الراحل الخميني، وقد درس في حوزة قم الدينية ويتكلم اللغة الفارسية بطلاقة، إضافة إلى أنه يحظى بدعم المرشد الأعلى علي خامنئي والقوى الموالية له، ومنها قوى البازار وبعض مرجعيات الحوزة الدينية المتنفذة.
ومن هنا يمكن فهم سبب الهالة التي أصبحت تلقى على حسن نصرالله والمهام التي أنيطت به في ما يخص رعاية جماعة الحوثي في اليمن ودور حزب الله الذي يتزعمه في الحروب الدائرة في سورية والعراق.
لكن هناك من يشكك بإمكانية أن يكون شخص غير فارسي زعيماً لإيران، وهنا نود أن نشير إلى أن إيران ومنذ خمسة قرون على الأقل لم يحكمها الفرس، فالصفويون كانوا أتراكاً آذريين وحكموا إيران مدة طويلة (1501-1785م)، ثم أعقبتهم الدولة الافشارية التي حكمت من عام 1736 حتى عام 1796 وكانت أسرة تركمانية، ثم حكم القاجاريين من عام 1794 حتى 1925 وكانوا كذلك أتراكاً اذريين، كذلك الأسرة البهلوية التي حكمت إيران من عام 1925 حتى عام 1979م لم تكن أسرة فارسية.
أما روح الله المصطفوي الهندي (الخميني) الذي تزعم الثورة الإيرانية التي أطاحت بحكم الأسرة البهلوية وأسس الجمهورية الإيرانية، فهو الآخر لم يكن فارسياً؛ بل كان من أصول هندية كما هو مدون في سجله المدني، وفضله الفرس على كثير من رجال الدين الفرس البارزين، وهكذا الحال مع المرشد الحالي علي خامنئي فهو ينحدر من أصول تركية آذرية أيضاً.
إذاً لا غضاضة لدى الفرس من أن يحكمهم غير فارسي طالما أنه ملتزم بالمنهج الفكري والثقافي الفارسي، ومتمسك بالدفاع الهوية القومية والعقائدية والمصلحة العليا لإيران.